عندما خرج السودانيون الأسبوع الماضي للاحتجاج في الذكرى الأولى للانقلاب العسكري، الذي منع تحول السودان إلى بلد يمارس قدرا من الديمقراطية ويحترم حقوق الإنسان، لم يتردد العسكريون في استخدام القوة المفرطة لقمعهم وإزهاق أرواح البعض. هذا ليس أمرا جديدا، فأعداء الحرية يستخدمون القوة عادة لإسكات معارضيهم؛ لأنهم يشعرون أنهم في مأمن من العقوبة.
العالم ليس محكوما بمنظومة سياسية عادلة تتصدى للظلم والاستبداد أو تنتصر للمظلوم، بل على العكس من ذلك، أصبحت المصالح تستحوذ على السياسات والمواقف، خصوصا لدى ما يسمى «العالم الحر»، الذي طالما تشدق زعماؤه ومفكروه بمقولات الديمقراطية والتقدم والعصرنة وحقوق الإنسان. مشكلة هذا العالم الذي يتحكم فيه أصحاب القوة، أن معادلة المبادئ والمصالح ليست واضحة، أو ثابتة أو ملزمة، أو مؤسسة على قيم راقية. فالغربيون يرون في الحكم الديمقراطي في بلدان العالمين العربي والإسلامي معوّقا لمصالحهم؛ لأنه سيتيح لشعوب المنطقة التحكم في ثرواتها بما يخدم مصالحها أولا.
فالقرارات المتعلقة بالإنتاج النفطي أو الاستهلاك أو العلاقات الاقتصادية مع الغرب، ستخضع للرقابة والفحص من قبل ممثلي الشعوب المنتخبين، ولن يكون لفرد أو حزب أو عائلة حق القرار الذي يعادل في قوته حق النقض (الفيتو). وليس تخرّصا افتراض تدخلات خارجية في السودان، خصوصا في ظل الصراعات القبلية الأخيرة في ولاية النيل الأزرق.
تقول الكاتبة أماني الطويل في مقال نشرته صحيفة «إندبندنت» بالعربية؛ إن هذه الصراعات تمثل «واحدة من تجليات أزمات قديمة وحديثة في السودان، فالأزمة القديمة هي أزمة الهوية الوطنية مع عمق نفوذ القبيلة وحضور ارتباطاتها في جغرافية انتشارها المتجاوزة للحدود القطرية، وهذه القبيلة تنشد ابتداء الخصوصية المجتمعية المميزة لها، والحدود الجغرافية الخاصة بها، أما الأزمة الحديثة فتتمثل في انحسار ظل الدولة والفراغ السياسي المرتبط بعدم وجود حكومة تحوز توافقا سياسيا، وذلك لمدة عام تقريبا، وهو ما أسفر عن تعمق الأزمات الاقتصادية والأمنية، مما اضطر الجميع في السـودان إلى البحث عن ملاذ آمن، فحضرت القبيلة كبديل جاهز لتأمين الحماية وتوفير الأمن ونشر شبكة التكافل الاجتماعي». وثمة اتفاق على أن ضعف الدولة المركزية نجم عنه تصدعات في الأطراف، خصوصا في ظل النزعة القبلية الجديدة ـ القديمة. وبرغم ما يقال عن الدولة الحديثة، فإنها لم تستطع كبح جماح الشعور بالانتماء القبلي، وأثره على التوازنات السياسية ضمن المجتمع الواحد.
لقد استثمر الغربيون في الأجهزة العسكرية والأمنية في الكثير من الدول العربية والإسلامية؛ لتكون أداتهم للضغط ومنع التغيير المفضي إلى قدر من الحرية والديمقراطية. وعلى مدى أكثر من نصف قرن، كان الهم الأكبر لهؤلاء منع وصول العناصر الوطنية والإسلامية النظيفة إلى مواقع القرار عبر صناديق الاقتراع، فاستمر الدعم المطلق للأنظمة السياسية التي تساير الغرب لضمان أمنها وبقائها في الحكم، والتي تتماهى مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. ولم يكتفوا بذلك، بل شهدت الأعوام الأخيرة سياسة غربية جديدة فرضتها أمريكا على المنطقة، تهدف لتصفية ملف القضية الفلسطينية بشكل نهائي. وكان التطبيع عنوان هذا المشروع الذي يطمح أصحابه لتوسيعه وتحويله إلى حقيقة، برغم المعارضة الشعبية الواسعة له.
فالمغرب سيحتضن في كانون الثاني/يناير المقبل قمة النقب 2 في مدينة الداخلة في الصحراء بمشاركة وزراء خارجية الولايات المتحدة وكيان الاحتلال ومصر والإمارات والأردن والبحرين. ويستعد المغرب لاستقبال مجموعات العمل التي سيكون هدفها دفع مشاريع في مجالات الأمن الإقليمي، والأمن الغذائي والمائي، والطاقة، والصحة، والتعليم، والسياحة، تمهيدا لقمة النقب 2. وكان المغرب قد قطع علاقاته مع «إسرائيل» في العام 2000 على أثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لكن في العام 2020 حذت المملكة حذو الإمارات والبحرين، وعمدت إلى تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية بدفع من الولايات المتحدة، مقابل اعتراف الأخيرة بـ«سيادته» على إقليم الصحراء الغربية المتنازع عليه.
السودان واحد من البلدان العربية الكبرى، ويفترض أن يكون البوابة العربية لأفريقيا، وعرف شعبه بحماسه للقضية الفلسطينية، ولكنه استهدف بشكل خاص بالانقلاب العسكري الذي جاء بالجنرالات إلى السلطة. وبدأ مسار التطبيع قبل عامين عندما التقى عبد الفتاح البرهان (رئيس مجلس السيادة السوداني) الذي كان من قادة الانقلاب العسكري قبل ثلاثة أعوام، مع بنيامين نتنياهو في العاصمة الأثيوبية، أديس أبابا. ووفقا لما ذكرته وكالة «الإسوشيتد برس» وقتها، فقد كانت حكومة الإمارات وراء ترتيب اللقاء المذكور. وفتح ذلك اللقاء أبواب التطبيع على مصاريعها. مع ذلك، يختلف السودان عن الإمارات والبحرين، فلديه شعب كبير يستطيع تحدي السلطة والتصدي لمشروع التطبيع.
ولذلك، استمرت الاحتجاجات المطالبة بإنهاء الحكم العسكري الذي يمارس أسلوب «التذاكي» مع الشعب على أمل كسر شوكة إرادة التغيير لديه أو مقاومة التطبيع. وعطَّل الانقلاب العسكري انتقال السودان إلى الديمقراطية بعد الإطاحة بعمر البشير في عام 2019 وأدى إلى تفاقم تدهور الاقتصاد. وسرعان ما علقت الدول المانحة مساعداتها وتراجعت قيمة العملة مع قيام الحكومة برفع الضرائب، ما أطلق شرارة العديد من الإضرابات. وعلى مدى الاثني عشر شهرا الأخيرة، تواصلت الاحتجاجات دون توقف، بمشاركة الأطباء والمعلمين والمهندسين والقطاعات المجتمعية كافة، الأمر الذي حوّل السودان إلى بؤرة ثورية، يسعى تحالف قوى الثورة المضادة لإخمادها. ولكن اتضح الآن أن هذا الشعب عصيٌّ على التطويع، برغم سقوط الضحايا تباعا. فقد بلغ عدد القتلى في الاحتجاجات منذ الانقلاب أكثر من 120 شخصا، ولا يزال مؤشر عداد الضحايا يتصاعد. صحيح أن رئيسه الأسبق، جعفر النميري، تورط قبل أربعة عقود في صفقة نقل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى فلسطين، إلا أن السودانيين استمروا في رفض التطبيع، ودعم أهل فلسطين.
في العتمة الفكرية والنفسية التي يمر بها العالم العربي، نتيجة خطط تحالف قوى الثورة المضادة لتمرير مشروع التطبيع، يبدو السودان مصدر أمل للكثيرين، خصوصا في ضوء الإحباط الذي يهيمن على أغلب الشعوب العربية. وثمة عقبات تواجه هذا التحالف ومساعيه الشريرة، في مقدمتها تعملق ظاهرة رفض الاحتلال لدى الشعب الفلسطيني. فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن، لم يتوقف نضاله، ولم يتراجع صموده أمام محاولات الاستئصال المدعومة بالإمكانات العسكرية والاقتصادية الغربية والعربية.
السودان بلد كبير يتكون من أعراق وأديان متعددة، ومن الطبيعي أن تحدث مشادات واضطرابات بين مكوناته. وفي غياب منظومة سياسية جامعة، تحظى بقبول المكونات الشعبية، يصبح البلد عرضة للتوترات والتدخلات الخارجية. ولا يزال السودان يدفع ثمن اضطرابات دارفور ومآلاتها السلبية على وحدة البلاد من جهة، وعلى الحكومة المركزية من جهة أخرى. وفي الفترة الأخيرة، حدثت نزاعات قبيلة دامية بولاية غرب دارفور، وسعت حكومة العسكر لفض النزاعات بأساليبها التي تساهم في تفاقم الأوضاع وليس حلها. فقد اعتقلت المئات منهم وأساءت معاملتهم. وكانت حكومة غرب دارفور نفذت خلال الثلاثة أعوام الماضية حملة اعتقالات واسعة، طالت أعدادا كبيرة من منسوبي القبائل ذات الصلة بالصراعات القبلية. وقد نقل بعضهم إلى سجون في الخرطوم وبور تسودان، وأفرج لاحقا عن عدد منهم. وبررت الأجهزة الأمنية اعتقال المجموعة لأسباب أمنية، ووضعتهم «أمانات في سجن الهدى". هذه الاضطرابات طبيعية ومتوقعة، ولكن أساليب التعامل معها مسألة أخرى. فإذا أضيف لاضطرابات الأطراف حالة التوتر والاحتجاج التي تسود المركز في الخرطوم وأم درمان، اتضح أن البلد يعيش أزمة سياسية تؤكد أن الحكم العسكري فشل في تحقيق وضع سياسي مستقر، يشعر مركزه وأطرافه فيه بالارتياح العام. المشكلة أن طبيعة الشعب السوداني خصوصا في مشاعره وانتماءاته وارتباطه بقضايا الأمة، عامل أساس في صوغ سياسة قوى الثورة المضادة تجاهه. لذلك سيتواصل حراكه من أجل التغيير، ولن يتخلى عن قضايا الأمة وفي مقدمتها فلسطين.