ما هي الصورة التي تسعى «إسرائيل» أن تُقدّمها للعالم عن نفسها؟ أهي الصورة التي تجمع مشاهد الدمار الشامل في
غزة، والأشلاء المتناثرة بين ذلك الركام وما يمثله من وحشية وسادية؟
أم صورة الدمار الشامل الذي نجم عن تفجير آلاف البيجرات الأسبوع الماضي، التي راح ضحيتها العشرات من
اللبنانيين؟ بين هاتين الصورتين هناك صورة المحتل الذي يتحدى العالم لمواصلة ذلك
الاحتلال، برغم المطالبة العالمية بإنهاء ذلك الاحتلال.
الأمر الواضح، أن قادة الاحتلال الإسرائيلي بزعامة بنيامين نتنياهو يسابقون الزمن لضمان بقاء كيانهم في بيئة معادية، لم تستطع بعد ثلاثة أرباع القرن من الاحتلال، هضم فكرة التنازل عن أرض فلسطين لصالح الاحتلال.
هل جاء الاعتداء الذي يمكن تصنيفه ضمن «الاعتداءات السيبرانية» نتيجة تفكير استراتيجي حقيقي، أم ردة فعل لحالة من اليأس حول احتمالات تطبيع الوجود الصهيوني في الشرق الأوسط؟ فمن المؤكد أن استخدام التكنولوجيا كنوع آخر من أسلحة الدمار الشامل، يعدّ تطورا غير محسوب لدى الكثيرين، ويكشف رجحانا في المجال التكنولوجي لصالح قوات الاحتلال.
ومن المؤكد كذلك أن «إسرائيل» سوف تكرر استخدامه؛ نظرا لفاعليته من جهة وضآلة تكاليفه المادية والبشرية ثانيا وسرعة تنفيذه ثالثا. ولكن السؤال: هل يمكن أن يكون حاسما في الحروب؟
قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية القنبلة الذرية التي ألقتها على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، وراح ضحيتهما 140 ألفا في الأولى و 80 ألفا في الثانية.
يومها كانت الحرب في طريقها للانتهاء، وربما أدى ذلك الاستخدام للتعجيل بإنهاء الحرب التي «انتصر» فيها الحلفاء. ذلك «النصر» كان دمويا حقّا، وكارثيا من الناحية الإنسانية، ولكنه لم يكن نهائيا.
فسرعان ما نهضت ألمانيا واليابان من تحت الركام، وأصبحتا في غضون أربعة عقود تمتلكان اقتصادات عملاقة وإمكانات تكنولوجية لا يمكن منافستها. ماذا يعني ذلك في سياق الحديث عن الشرق الأوسط، الذي أصبح مستهدفا بالتنمّر الإسرائيلي؟
إن ما قيل عن الحرب العالمية الثانية يصدق كذلك على ما حدث في حرب فيتنام، وكيف أن أمريكا، بكل ما لديها من إمكانات، وهي التي استخدمت القنبلة النووية قبل ثلاثة عقود فحسب من حربها في جنوب شرق آسيا، وأصبحت قوة عالمية عملاقة في حقبة الحرب الباردة، لم تستطع توجيه الضربة القاضية للثوار الفيتناميين.
واتضح لقادتها لاحقا أن ذلك كله لم يوفر لها حماية مطلقة، فسرعان ما أصبحت مستهدفة من قبل أطراف دولية عديدة، اعتبرتها رمزا للتنمّر والعدوان.
كانت تجربتها في فيتنام مُرّة جدا، ورادعا لها من التورط في صراعات مماثلة لأكثر من ربع قرن.
وكانت تجربتها في فيتنام مُرّة جدا، ورادعا لها من التورط في صراعات مماثلة لأكثر من ربع قرن. وحتى الآن، ما تزال واشنطن تشعر بمرارة تجاربها العسكرية التي انعكست لاحقا على تجاربها غير الناجحة في أفغانستان والعراق، وارتبطت سمعتها بالسجون السرّيّة والأزياء البرتقالية التي أجبر معتقلو تنظيم «القاعدة» على ارتدائها.
وكان من نتائج ذلك، عودة الشعور الداخلي لها بعدم فاعلية سياستها الخارجية وتحالفاتها وتدخلاتها العسكري في أنحاء العالم. فما الذي سيحمي «إسرائيل» من تبعات مماثلة إذا استمرت في سياسات التنمّر والاحتلال والاضطهاد؟
لا شك أن ما جرى في الأيام القليلة الماضية من تفجير أجهزة الاتصال بأيدي حامليها، وقتل أكثر من 40 شخصا، بسبب ذلك كان تطورا غير مسبوق، وأنه أدخل الرعب في قلوب الكثيرين، خصوصا في لبنان التي كان لها نصيب الأسد من تلك التفجيرات. ولا شك كذلك أن مناوئي السياسات الإسرائيلية ورافضي احتلال فلسطين، أصبحوا مجبرين على إعادة فتح ملفات الصراع، وكيف يمكن أن تكون قواعد الاشتباك مع المحتل مستقبلا.
الأمر المؤكد لدى هؤلاء، أنهم لن يتراجعوا عن مواقفهم الهادفة لتحرير الأرض والدفاع عن أهلها والتصدي للمحتلين.
ولا شك كذلك أن الإسرائيليين سوف يستمرون في تطوير أدائهم، وسوف يستثمرون بوتيرة أكبر في التكنولوجيا العسكرية.
كما أن الدول الغربية الداعمة لهم، ستواصل دعمها غير المحدود أو المشروط لقوات الاحتلال. ولكن هذه الأطراف جميعا تعلم أن لتلك السياسة ثمنا سياسيا وعسكريا، بالإضافة لأبعاده الأخلاقية والإنسانية. ويكفي الإشارة إلى الصدمة التي أصابت المجتمع الدولي بعد حادثة تفجير البيجرات والهواتف المحمولة في لبنان.
فقد كانت ردة فعل الأمم المتحدة كبيرة. وبرغم خشيتها من الغضب الأمريكي، فقد دعت للتحقيق في ما جرى، واعتبره الخبراء دليلا على ارتكاب «جرائم ضد الإنسانية»، تضاف إلى ما اتهم به رئيس وزراء العدو من ارتكاب تلك الجرائم.
وكان لافتا للنظر استمرار محكمة الجنايات الدولية وكذلك محكمة العدل الدولية، في متابعة القضية والإصرار على اعتقال بنيامين نتنياهو؛ باعتباره المتهم الأول في ملف الجرائم ضد الإنسانية.
صحيح أنه يحظى بحماية أمريكية، ولكن تلك الحماية لها حدود، ولن يكون الرئيس الأمريكي نفسه بمنأى عنها. وكان لدخول دول مهمة مثل جنوب أفريقيا على خط المطالبة بمحاكمة زعماء «إسرائيل»، بعدٌ نفسي داعم لأهل فلسطين ومزعج للكيان الإسرائيلي وداعميه في واشنطن ولندن.
الحرب لا يحسمها السلاح فحسب، فقد تتوقف العمليات العسكرية الميدانية وتبقى الحرب تعتمل تحت الرماد، لتنفجر مرة أخرى في ظروف مختلفة. وقد جاءت دعوة الأمم المتحدة الأسبوع الماضي لإنهاء السباق على طريق الحرب بين الاحتلال الإسرائيلي وأصحاب الأرض، لتؤكد الخشية الدولية من توسع دائرة الصراع وحدوث حرب إقليمية كبرى.
هنا، أصبح استخدام التكنولوجيا في الحرب عاملا لا يصب سياسيا لصالح مستخدميه، بل ربما جذب النظر للممارسات الإسرائيلية، وكيف أنها بدأت تخرج بشكل فاقع عن الحدود والأخلاق التي يفترض مراعاتها في ساحات الصراع. ونتيجة لذلك، لا يستبعد أن تكون غبطة الإسرائيليين بحربهم التكنولوجية مؤقتة، وقد لا تتكرر مرات أخرى.
وقد بادرت حكومة بنيامين نتنياهو لدعوة المستوطنين الإسرائيليين للعودة إلى الوحدات الاستيطانية في شمال فلسطين، بالقرب من الحدود مع لبنان. وبهذه الدعوة حاولت «إسرائيل» تعميق الانطباع بأنها استطاعت حسم الحرب، وأبعدت المخاطر التي يتعرض لها المستوطنون على الحدود مع لبنان.
والواضح أن هذا الاحتفاء كان سابقا لأوانه، وأن هناك مؤثرات في الواقع لا تخدم سياسات التوسع الإسرائيلية؛ فالقضية التي مضى عليها أكثر من ثلاثة أرباع القرن، ولم يستطع أي من الزعماء الصهاينة حسمها، لن يستطيع نتنياهو إنهاءها إو إلغاءها مهما تظاهر بذلك.
السؤال الذي يتبادر لأذهان الكثيرين في ضوء ما حدث: هل ستتكرر الاعتداءات التكنولوجية كثيرا؟ وهل سيكون للحرب السيبرانية آثار كبيرة على مسار الصراعات العسكرية؟
وما الذي سيحدثه العدوان التكنولوجي على الدول العربية المجاورة لفلسطين؟ في البداية، يجدر التأكيد أن ما حدث الأسبوع الماضي، لم يكن ضربة قاضية لأحد، وإن ألحق ضررا كبيرا بقوى المقاومة، وربما أظهرهم لفترة محدودة بعدم القدرة على مواكبة التطور التكنولوجي الإسرائيلي.
فقد استقبلت قوى المقاومة الضربة الأولى وترنّحت بسببها، ولكنها سرعان ما استعادت قوامها وأكدت لجماهيرها ثباتها على مشروع التحرير، واستعدادها لتقديم المزيد من التضحيات على طريق التحرير.
أصحاب الأرض كرّروا مرارا عدم استعدادهم للتخلي عن أرضهم، مهما كان ثمن التمسك بها.
الأمر الثاني، أن أصحاب الأرض كرّروا مرارا عدم استعدادهم للتخلي عن أرضهم، مهما كان ثمن التمسك بها. وأثبت الفلسطينيون خلال العام الأخير (أي منذ 7 أكتوبر الماضي)، أن لديهم من القدرة على تحمّل العدوان الإسرائيلي ما يفوق قدرة المعتدين على الصبر والثبات.
الأمر الثالث، أن قوى المقاومة تمتلك القدرات العقلية القادرة لتطوير إمكاناتها الذاتية، دون الاستعانة بالغربيين، الذين ما فتئوا محجمين عن ممارسة دور بنّاء في المنطقة يردع الظالم والمحتل، ويعيد للمواطن العادي ثقته بربه والإنسانية، ويتمسك بالحق الذي يعدّه جزءا من وجوده.
القدس العربي