من المهم
دائما لنا أن نتذكر ونؤكد ونكرر تذكرنا وتأكيدنا كل يوم، أن كل الأمور جرى
الإعداد لها جيدا من منذ عهد عهيد.. ضمن حركة تاريخية واسعة تتصل خيوطها بسبع حروب
صليبية (1095-1272م) على بلاد الإسلام، لتكون
إسرائيل وتبقى كدولة تمثل جزءا وظيفيا
صغيرا ضمن هذه السياق التاريخي الكبير.. حرفيا إسرائيل لا تعدو كونها "تفصيلا
صغيرا" في الموضوع لا يكاد يذكر، ليس فقط لأنها قامت على أكبر أكذوبة في
تاريخ علم الأنثروبولوجي (علم الأعراق والأجناس)، وهي أكذوبة أن يهود الحاضر هم
سلالة بني إسرائيل الأولى التي دخلت
فلسطين في القرن الخامس عشر ق.م، والتي لم تكن
أبدا في وقت من الأوقات ملكا خالصا لهم.
ويكفي
فقط أن نتأمل
اليهود في كل بلد وسنجدهم يشبهون سكان هذه البلد بلا أي اختلاف.. إن طوائف
اليهود في العالم يمثلون سلالات وأجناس مختلفة.. كما وأنهم لا يمتون بأي صلة عرقية
إلى بني إسرائيل القدماء.. ويهود إثيوبيا السمر ويهود ألمانيا الجيرمان ويهود
الصين الصفر ويهود شرق أوروبا الشقر.. خير دليل على ذلك.. ولن ننسى أن اليهودية في
اليمن بعد إيمان ملكة سبأ أصبحت مركزا من أهم مراكز انتشارها في الإقليم كله.
القانون
الكوني الثابت يخبرنا دائما وأبدا أن الحقيقة التاريخية لطالما احتفظت بقوتها
وصدقها عبر كل الأزمان، وتأبى أن تحمل طويلا الأكاذيب والضلالات التي تلحق بها مهما
اتفقت على التلاقي بينها.. والأدلة على ذلك كثيرة وليست هي موضوعنا هنا على أي حال..
إسرائيل وُجدت ضمن حركة تاريخية واسعة لإحداث هذا الشرخ الاستراتيجي الخطير في قلب الأمة الإسلامية وحضارتها العظيمة.. لتبقى بالفعل شاهدا في كل الأوقات على استمرار هذه الحرب التي لم تنته أبدا
* * *
ما
يجب أن نذكره دائما ولا ننساه أبدا أن إسرائيل وُجدت ضمن حركة تاريخية واسعة
لإحداث هذا الشرخ الاستراتيجي الخطير في قلب الأمة الإسلامية وحضارتها العظيمة.. لتبقى
بالفعل شاهدا في كل الأوقات على استمرار هذه الحرب التي لم تنته أبدا، لكنها تبدلت
وتشكلت على ما تجري به ضرورات التاريخ..
وليس
أدل على ذلك من أن أول غزوة للغرب على الشرق بعد تلك الحروب وهي الغزوة الفرنسية
على مصر سنة 1798م، كان فيها فصل ضمن فصولها القصيرة هذا العنوان الكذوب الذي
سيتردد صدى أكاذيبه طويلا طويلا بعدها..
وسيكون
صوت نابليون بونابرت (ت: 1820م) أول صوت سياسي يأتي من الغرب متصايحا في ربوع
الشرق الإسلامي عن شيء اسمه دولة لليهود على أرض فلسطين.. فيوجه نداءه المشهور
لليهود عام 1799م والذي جاء فيه: "من نابليون بونابرت القائد الأول في جيوش
الجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى الورثة الشرعيين لأرض إسرائيل، الإسرائيليون
هم الأمة الفريدة التي لم تستطع آلاف السنين وشهوة الفتح والطغيان أن تجردهم سوى
من أرضهم ولكن ليس من اسمهم وكيانهم القومي..".. إلى آخر النداء الذي يطالبهم
فيه بالالتفاف حول رايته وتحت قيادته. وبعد عودته إلى فرنسا مهزوما دعا الطوائف
اليهودية في المستعمرات الفرنسية إلى البدء بتأسيس الدولة اليهودية "في المنفي"
لحين احتلال فلسطين.
* * *
لم
يكن في العقيدة الكاثوليكية أدنى فكرة عن عودة اليهود إلى فلسطين أو بعث الأمة
اليهودية من جديد، لأن هذه الأمة انتهي وجودها بظهور السيد المسيح، كما أن الفقرات
الواردة في العهد القديم والتي تتنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين وبمستقبل مشرق لإسرائيل
لا تنطبق على اليهود.. بل هي أصلا على الكنيسة الكاثوليكية التي تجسد "السيد
المسيح" مجازا كما يعتقدون..
لم يكن في العقيدة الكاثوليكية أدنى فكرة عن عودة اليهود إلى فلسطين أو بعث الأمة اليهودية من جديد، لأن هذه الأمة انتهي وجودها بظهور السيد المسيح، كما أن الفقرات الواردة في العهد القديم والتي تتنبأ بعودة اليهود إلى فلسطين وبمستقبل مشرق لإسرائيل لا تنطبق على اليهود.. بل هي أصلا على الكنيسة الكاثوليكية
اليهود
طبقاً للعقيدة الكاثوليكية اقترفوا إثماً كبيرا، فأخرجهم الله من فلسطين إلى
منفاهم في بابل، وعندما رفضوا دعوة السيد المسيح نفاهم الله ثانية، وانتهت علاقة
اليهود بأرض فلسطين إلى الأبد.. "هو ذا بيتكم يترك خرابا" (انجيل متى
23-38).. وبالفعل تحققت نبوءة السيد المسيح الذي رفضوه وحاربوه ولم يبق لهم وعد
الله التوراتي بالأرض المقدسة..
الكنيسة
الكاثوليكية والأرثوذكسية لم تعترف في أي وقت من الأوقات بأن اليهود هم شعب الله
المختار.. والسيد المسيح حارب بشدة هذه النزعة العنصرية فيهم.. ودعاهم وغيرهم إلى
الدخول في ملكوت الله المفتوح أمام جميع الصالحين (فالشمس تسطع على الجميع سواء
بسواء).. في ظل هذا الموقف من الكنيسة الكاثوليكية لم يكن هناك أي حديث عن إعادة
بعث اليهود أو عودتهم وتملكهم لأرض فلسطين من جديد..
* * *
هو
إذن المذهب البروتستانتي الذي قلب الأمور رأسا على عقب من خلال التغيرات اللاهوتية
التي جاء بها والتي روجت واسعا لفكرة أن اليهود أمة مفضلة.. وضرورة عودتهم إلى
فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر.
العلاقة
الوثيقة تلك بين البروتستانتية من جهة والصهيونية والجماعات اليهودية سيشير إليها
العلامة الكبير د. عبد الوهاب المسيري (ت: 2008م) في موسوعته الشهيرة "اليهود/
اليهودية/ الصهيونية" فيقول: يلاحظ ارتباط الحركة الصهيونية بالبلاد
البروتستانتية، وقد تبنت إنجلترا المشروع الصهيوني بعد منافسة قصيرة مع ألمانيا،
وتبعتها الولايات المتحدة، وذلك بينما كان هناك دائماً رفض للمشروع الصهيوني في
الأوساط الكاثوليكية.. ويضيف: وارتبطت هجرة أعضاء الجماعات اليهودية في العصر
الحديث بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني البروتستانتي الأنجلوساكسوني، ولذا نجد أن
الغالبية الساحقة من يهود العالم توجد في الولايات المتحدة وكندا وجنوب أفريقيا
وأستراليا ونيوزيلندا.. وأخيراً إسرائيل، التي هي جزء من هذا التشكيل الأنجلوساكسوني.
هو إذن المذهب البروتستانتي الذي قلب الأمور رأسا على عقب من خلال التغيرات اللاهوتية التي جاء بها والتي روجت واسعا لفكرة أن اليهود أمة مفضلة.. وضرورة عودتهم إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر
ويمد
الخط لنا في اتجاه بالغ الأهمية.. ذاك الاتجاه الذي سيحكم ويتحكم في كل شيء بعده
وحتى الآن، وهي الرأسمالية التي ستستدعى نقيضها الشيوعية (في إطار جدلية هيجل عن
الصراع) ليشكل لنا القرن العشرين أهم قرن شهدته البشرية، فيقول: "ثمة علاقة
غير مباشرة بين البروتستانتية والجماعات اليهودية تتحدد في أن الرأسمالية حسب
أطروحة ماكس فيبر وُلدت في المجتمعات البروتستانتية، كما أن ميلاد الرأسمالية كان
أهم حدث في تاريخ الجماعات اليهودية خصوصاً في الغرب".
رحم
الله الدكتور عبد الوهاب الذي ترك لنا ما سيُقرأ قراءة مرجعية نهائية في كل ما
يتعلق بذلك الصراع المفتوح بين الشرق والغرب..
المفكر
اليهودي هوبزباوم (ت: 2012م) الذي يكره دولة إسرائيل سيقول لنا في رباعيته الشهيرة
"عصر رأس المال" و"عصر الإمبراطورية" و"عصر الثورة"
و"عصر التطرف"؛ تفصيلات كل ذلك..
نخطئ
كثيرا إذا تصورنا أن السيد آرثر جيمس بلفور (ت: 1930م) فاجأ الدنيا بوعده المشهور
لليهود -الذين ستنظر إليهم جلالة الملكة بعين العطف- بوطن قومي لهم في فلسطين.. لا،
هذا ليس صحيحا، إنه فقط أكذوبة صاخبة..
وعد بلفور لم يكن إلا مجرد قرار إجرائي في
سياق تاريخي أكبر كثيرا من بلفور ومن جلالة الملكة نفسها.
twitter.com/helhamamy