"فهمتكم"..
منزلة من منازل الاعتذار، هو عذر مقنع، أو هو كناية عن الأسف، فمنصب الزعيم أو
الرئيس يجعله يأبى الاعتراف بالذنب، لعل معناها: امنحوني بداية جديدة، اغفروا لي
زلّتي، وإن الشعب العربي لغز أو أحجية تحتاج سنين إلى فكها، وأول من قالها زين العابدين
بن علي، رئيس تونس السابق، وسارت به الركبان على العروش، فتبعه مبارك فنطق باعتذار
آخر، وأبدى رغبته بالموت على أرض مصر، بعد أن خدم مصر وشعبها، استشفى في ألمانيا
لكنه سيموت في مصر، فلن يتاح له أن يدفن في المانيا بالكرامة التي يدفن فيها في
مصر، والموت مفجع وذكره يثير العطف، ثم تبعهما "سيسي الماء العذب"، الذي
فوجئنا به، يعترف بعد عشر سنوات من النكد والجوع والصبر والعطش، أنه لم يفهم الشعب
المصري، مع أنه ساوى نفسه بسليمان النبي، وسليمان هو النبي الذي أوتي ملكا لم يؤته
أحد من العالمين، جنّا وإنسا، وقال فيه التنزيل: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ". لكن الاعتذار سفينة نجاة، وسبب
كون الاعتذار مسقطا للذنب هو أن الرئيس يُرفع إلى منزلة الإله، فإن اعترف بالخطأ
كان ذلك منه نقيصة، وتخفيضا لرتبة.
وقد
اعتذر الأمريكيون عن القنبلتين النوويتين اللتين ضربت بهما اليابان، أو أوحوا بذلك،
ووصفوها بأنها الطريقة الفضلى لإنهاء الحرب. وقد ارتكبوا عشرات المذابح في سوريا
والعراق وأفغانستان، ذهب ضحيتها مئات الأطفال في المدارس، حتى اضطر الأفغان إلى تدريس
تلاميذهم في كهوف الجبال، وقد اعتذروا عن القصف الخاطئ، فهم أصحاب واجب ومواساة.
وفي
الأمثال يقولون عن القاتل الخبيث: يقتل القتيل ويمشي في جنازته، وقد يكون يمشي في
الجنازة لإبعاد الشبهة أو للتأكد من الموت، فقد أمسى اعتذار القوي مكافأة أخلاقية
للمجرم، يثنى المجرم عليه ويمدح بها.
يُتهم
سعوديون بضرب البرجين، فتُقصف أفغانستان كلها، ويُشك في امتلاك العراق لأسلحة
تدمير شامل فيُقصف العراق ويُدمّر، وصدرت تصريحات عن ساسة أمريكان توحي بالاعتذار،
لكن لن يفيدهم شيئا، فقد قُتل نصف مليون طفل، وشرد شعب كامل. هذا القضاء يذكر بالصلب،
وبالخطيئة الأولى. ثواب الأقوياء ليس مثل عقاب الضعفاء.
وكان
الجند في عهد محمد علي يفقأون أعينهم ويقطعون أصابع سعيا للعذر من الحرب، فجندّهم باني
نهضة مصر كما يزعم الحداثيون، في الخطوط الخلفية.
ولم
يعتذر الأسد قطّ لشعبه إلا في مسألة واحدة، عندما سطا عناصر الوحدات الخاصة على
النساء في الشوارع ونزعوا حجابهن، فثار الناس وحمل بعضم السكاكين في الشوارع، دفاعا
عن نسائهم. وكان قد عاقب الشعب السوري كله على جريمة المدفعية بحلب، بل إن لموت
باسل الأسد الذي مات في حادث سير، عقوبة، وكانت حزنا فُرض على الشعب أربعين يوما
من الحداد والسواد.
العقاب
لا يناسب الجرم، فقد فضح العلمانيون اليساريون الكنيسة، وكشفوا عن ارتكاب 330 ألف
عملية اغتصاب اقترفها آباء الكنيسة الفرنسية، وجعلوا يعتذرون عنها، فغُفرت ذنوبهم،
فما أكرم هؤلاء القوم وأسرعهم عفوا عند المقدرة!
وقد يرى
بعضهم أن جريمة الاغتصاب أقل وأدنى من عذر الكنيسة عن مذابح مئات الآلاف من أطفال
الشعوب الأصلية في أستراليا وكندا، بعد قتل آبائهم، ثم قُتلوا أيضا. وقد اعتذرت
الكنيسة عن هذه الجرائم، ووضع بابا الكنيسة عمامة الريش التي يضعها الشعب الأصلي
وانحنى للناجين وهم قلة قليلة ناجية، بعد أن سُرقت ثروات البلاد. اعتذروا بعد مرور
عشرات السنين، من غير تعويضات، أو ديّات، فحصلوا على ثناء من الناجين المهمشين
والمظلومين والمسحوقين في قاع المجتمع، وتكبير وتقدير من نخبة أوروبية وعربية!
بل إن
فئات من النخبة العربية طالبت مشايخ الأزهر بالاعتذار عن الفتوحات الإسلامية، وفضائل
المسلمين الفاتحين في إسقاط الضرائب عن الشعوب التي كانت تحت الاحتلال الروماني،
وتحريرهم من العسف الديني وظلم الكنيسة الرومانية، وترافق ذلك مع ظهور طبقة إسبانية
تبكي على فضائل الفتوحات الأندلسية، فلولاها ما أبصر الغرب الحضارة.
وبعد أن
غدرت الإمارات بالثورة السورية وقادتها، كافأت ابنة أحد الضحايا بعد نجاحها في
الفوز بمسابقة تحدي القراءة، فطار بعض الشعب السوري فرحا بكرم حاكم دبي وأفضاله.
ويطالب
الشعب الجزائري الرئيس الفرنسي بالاعتذار عن الإبادات الجماعية، وهي واحدة من أكبر
الإبادات في التاريخ، لا تضارعها إلا إبادة شعوب القارة الأصليين، لكنه لم يفعل.
والاعتذار اللفظي لن تتبعه ديّات، فلا يأخذ الديّة إلا القوي، الضعفاء ليس لهم ديّات،
ونعلم أن فرنسا محظورة على الشعب الجزائري الذي نصرها في الحرب العالمية الثانية
على ألمانيا.
قيل
في أمثالهم: الْمَعَاذِرُ مَكَاذِبُ، والْمَعَاذِيرُ الْحُجَجُ، وَجاء فِي التَّفسيرِ:
الْمَعَاذِيرُ السُّتُورُ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. تعلم زين العابدين بن علي من انتحار
رجل واحد وفهم، وحاول السيسي أن يفهم أو زعم ذلك بعد عقد من الزمن، فسارعت أمريكا
إلى مساندته على عدم الفهم، وبادر رئيسها بايدن إلى عناقه، وشبكته نانسي بيلوسي في
ذراعه شبكة عاطفية، لا يشبكها إلا حبيب لحبيبه، شداً لملكه، وتمكينا له في الأرض،
وتخذيلا لشعب كان ينتظر زيارته ليتظاهر ضد "مندوبه السامي" الذي يحكم
مصر.
بلاد
الفردية المقدسة، التي تجد الأعذار لكل مجرميها البيضان، تحكمها أنظمة تقضي
بالجملة، وتبيد إبادة شاملة من أجل شبهة جريمة، وتتنظر أجيالا حتى تعتذر عن إبادة
شعب أو استئصال أمّة وكأنه خطأ مطبعي أو حادث اصطدام في زحام تسوق.
تروى
هذه الطرفة عن متهم بالقتل وعده القاضي بالعفو إن اعترف بالجرم المنسوب إليه، ففعل،
فحكم عليه القاضي عليه بالموت، ولما ذكره المتهم بوعده، قال القاضي: سامحنا هذه
المرة.
twitter.com/OmarImaromar