في خضم الجدل الديني والفكري الدائر في الساحة الإسلامية، ظهرت أطروحات تدعو إلى إعادة قراءة النصوص الدينية الأصلية قراءة حداثية، وهو ما قُوبل في أوساط إسلامية أصولية بالاعتراض والرفض، مع بيان ما في تلك الأطروحات من مفاسد في مقدماتها ومضامينها وآلياتها ومآلاتها.
وثمة من يرى أن تلك الأطروحات أحدثت تأثيرات واضحة، في رؤى ومواقف
وسلوكيات اتجاهات فكرية وحركية إسلامية، فباتت هي الأخرى تتبنى بعض تلك الأفكار،
وتقوم بتسويقها تحت غطاء ديني شرعي، كالتوسل بمقاصد الشريعة، والتذرع بقاعدة تغير
الأحكام بتغير الأزمان، وما إلى ذلك من قواعد وأصول شرعية بإنزالها على غير
مواقعها ومحالها الصحيحة، وفق منتقديها.
في تحليل أسباب ومحركات تلك الدعاوى والدعوات، تتباين الآراء، وتتعدد
وجهات النظر، بين من يرى مشروعية إعادة قراءة النصوص الشرعية قراءة تجمع بين روح
الأصالة ومقتضيات المعاصرة، وبين من يصفها بالانحرافات في المجال العقدي والفكري
والثقافي، وخروجها عن أصول النسق الأصولي وقواعده، بل وتمردها عليه، بذرائع
التجديد والاستجابة الايجابية لتحديات العصر بما يتماشى مع شروط الوعي التاريخي
ومتطلباته.
في كتابه (ينبوع الغواية.. غلبة المزاج الليبرالي وأثره في تشكيل
الفكر والتصورات) يرى الباحث الشرعي السعودي، المهتم بالقضايا الفكرية والفلسفية،
الدكتور عبد الله العجيري أن ما يسميه بالانحرافات المعاصرة في المجال العقدي
والفكري "ليست عائدة في حقيقتها إلى إشكاليات معرفية علمية تدخل في إطار
الشبهة، وإنما ثمة محركات آخرى تقف وراء المشهد".
ووفقا للعجيري فإن تلك المحركات "هي من يسهم في تشكيل كثير من
القناعات والتصورات المنحرفة" والتي يرجعها إلى مركب: هيمنة النموذج الثقافي
الأجنبي مع ضعف التسليم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مشددا على أهمية
"البحث في المحركات الحقيقية الفاعلة التي تدفع الشخص أو الطائفة نحو تبني
رؤية ما.. فظاهرة تبني الأفكار في أي ساحة من ساحات المعرفة البشرية تعود إلى
عوامل عدة، ولئن كان للمعرفة والعلم أثر كبير في تحريك المشهد الفكري المعاصر فمن
الوهم اعتقاد أنه يشكل الفاعل الوحيد في المشهد".
وتابع: "إذ الظاهرة الإنسانية ظاهرة مركبة معقدة فلا يصح تفسير
تجلياتها بمعامل واحد أو حتى معاملات دون استحضار هذه الطبيعة المعقدة المركبة،
ولذا ففي كثير من الأحيان لا يكون للعامل العلمي/ المعرفي التأثير الحقيقي في تبني
الفكرة والتصور، بل يكون الأمر عائدا إلى اعتبارات أخرى.. كغلبة هوى، أو عصبيات،
أو دوافع نفسية كالكبر والحسد أو مصالح شخصية، ومكاسب عاجلة..".
عبد الله العجيري.. كاتب سعودي
ومثّل العجيري لذلك بما تناولته بعض الأطروحات العصرية بشأن حد
الردة، والتي رامت تضعيف الدليل النقلي النصي من جهة الثبوت والاستدلال، وعدم
نهوضه لإثبات حد الردة، وبعد تتبعه لطريقتهم في رد الأدلة النصية النقلية، رأى أن
"هذا التسلسل في مناقشة هذه المسألة، وإن بدا نقاشا يدور في فلك النص ودلالة
الشريعة، لكنه كثيرا ما يكون متأثرا بعوامل فاعلة تعمل من خلف الستار ".
وأردف "إن كثيرا ممن يدفع حكم هذا الحد (الردة)، ويسعى في تقرير
مبدأ حرية المعتقد، وحرية التعبير عنه لا يدخل بنفسية حيادية عند معالجة هذه
المسائل، بل ثمة موقف مسبق يضغط باتجاه إنكار حد الردة والتعلق بدلالات آخر لنفيه،
وإلا فحدٌّ لم يكن محل إشكال طيلة قرون مضت لا على مستوى التنظير، ولا على مستوى
الممارسة، ما باله صار اليوم محلا لهذا القدر من الإشكالات" متسائلا: "وهل يتصور أن يقع مثل هذا التتابع على
تقرير هذا الحد فقهيا مع قطعية النص ثبوتا وفهما على خلافه"؟.
من جهته قال الأكاديمي المغربي، الباحث في العقائد والأديان والفكر
الإسلامي، الدكتور حمزة النهيري "هناك أسباب عديدة أدّت إلى وجود انحرافات في
قراءة النصوص الدينية الإسلامية، وكان البادئ بهذه الانحرافات التيار الاستشراقي
الغربي الذي حاول أن يتوسل بطرائقه في البحث إلى إيجاد ثغرات في الدين الإسلامي
كما وجدها في النصرانية".
وأضاف "فحركة التصحيح الديني عندهم (مارتن لوثر وباروخ سبينوزا)
قد استفادا من علماء الإسلام في نقد سلطة الكنيسة، وقد استغل هذا المنهج العرب
الذين تأثروا بالفكر الغربي، فطمعوا بأن يجدوا فكريا ما يقنع المسلمين بضرورة
الالتحاق بركب الحضارة الغربية بعجرها وبجرها".
وتابع في حديثه لـ"عربي21": "وهو ما اصطدم بسد منيع
تسور به الفكر الإسلامي بمقوماته: العقائد وعلم الكلام، الفقه وأصوله (القانون
الاستدلالي)، علم مقارنة الأديان وقوانين الجدل، الفلسفة الإسلامية القائمة على
الإيمان بوجود الخالق، وأن الإسلام لا يمنع التفلسف وطلب الحكمة، لأن علماء
الإسلام يرون العلم ممدوحا مطلقا".
وعن دوافع وأسباب إنكار حد الردة في بعض أطروحات بعض المعاصرين، أشار
النهيري إلى أن "العقل الإسلامي عقل مجتهد بطبيعته، وفيما يتعلق بإنكار حد
الردة مثلا، فليس من الإنصاف القول بأنه نتيجة التأثر بالحضارة الغربية، بل هو قول
فقهاء معتبرين (أبو زهرة، جابر العلواني) خبروا النصوص الشرعية واستقرأوها فوجدوا
أن هذا الحكم يخالف القرآن المهيمن على السنة".
وأردف "فالشافعي والشاطبي وجمهور العلماء يرون السنة بيانية
للقرآن، وليست ناسخة له أو منشئة لأحكام جديدة، ولأجل ذلك لا يمكن عد حكم المرتد
في الإسلام حكما قطعيا، خصوصا مع دعوة القرآن إلى حرية الاعتقاد، وأنه لا إكراه في
الدين، فوجب حمل بعض النصوص السنية (من بدل دينه فاقتلوه) على ما تعلق بالخيانة
السياسية في زمن كانت الدولة الإسلامية تخوض حروبا على جبهات متعددة، المشركين
والمنافقين من الداخل والفرس والنصارى من الخارج".
وتعقيبا على القراءات المنحرفة للقرآن الكريم عند العرب، ذكر الأكاديمي
المغربي "أننا بهذا الخصوص نتحدث عن أسماء معروفة (محمد شحرور، عبد المجيد
الشرفي، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، جمال البنا..)، وإن كانوا يختلفون درجات في
طريقة أنظارهم للدين الإسلامي، فشحرور قرآني محض يؤمن بالدين الإسلامي، والنبي
الرسول، لكنه يحرف النصوص القرآنية ولا يعترف بسلطة الفقهاء في فهم النصوص
القرآنية".
وتابع: "بخلاف أركون الذي لا يعتقد بأن الإسلام خاتم الديانات
التوحيدية، بل لا يؤمن بصلاحيته في هذا الزمان لذلك سلط معارفه محاولا إيجاد ثغرات
في القرآن، وعبد المجيد الشرفي علماني محض لا يعترف بصلاحية الأديان في هذا
العصر.. وهؤلاء وقعوا في تناقضات غريبة وعجيبة في فهم النص الديني الإسلامي، جعلهم
عرضة للنقد تارة، وللتسفيه تارات أخرى بسبب عدم تمكنهم من استيعاب آليات الفكر
الإسلامي، وقواعد فهم الشريعة".
وفي ذات الإطار رأى الكاتب والباحث المغربي المختص بالدراسات
القرآنية وقضايا الفكر، الدكتور مولاي أحمد صابر أن "تجديد النظر في النصوص،
وإعادة قراءتها وفهمها، وكل ما يتعلق بذلك هو سنة من سنن الوجود، ومن سنن الاجتماع
البشري، وهو تحصيل حاصل، وأمر مطلوب.. ".
وأضاف: "وهذا المعنى مشار إليه في الحديث النبوي "إن الله يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها"، وكذلك النصوص
الوافرة في القرآن التي تحث على التفكر وإعمال العقل والنظر في فهم الواقع، ومن
المعلوم أن الواقع يتحول ويتغير ويتجدد في كل زمان وفي كل مكان، مما يتطلب معه
تجديد النظر، وتجديد الفهم للنصوص الشرعية، بل أكثر من ذلك، قد يتطلب الأمر فهما
مغايرا للنصوص الدينية المؤسسة".
وأردف "ومن ثم فإن المسألة لا تتصل بدرجة أولى بعلاقة الغرب
بالشرق، أو ما شابه ذلك، حتى أننا إذا نظرنا في تاريخنا الإسلامي، وقارنا بين
القرون الأولى والتي تليها، فكل قرن له ميزته وخصوصيته، وكل حضارة لها خصوصياتها
وسياقاتها، حتى في سياق الحضارة الإسلامية فهناك تنوع واختلاف قبل أن نتصل بالغرب
وأفكاره ومعارفه".
وعن مدى تأثر الحالة الإسلامية، علماء ورموز وكيانات حركية ودعوية
بالغرب وأفكاره، أوضح صابر لـ"عربي21" أن "التأثير والتأثر بمعارف
الغرب وأفكاره في الحالة الراهنة أمر موجود، وهو أمر عادي وطبيعي، ولا عيب فيه،
لكن ما ينبغي لفت النظر إليه، أن لكل حضارة خصوصياتها وسياقاتها ونظامها المعرفي،
ونحن في الحضارة الإسلامية لنا مرجعية متمثلة في القرآن الكريم، برؤيته وفلسفته
الخاصة به، فيبقى التحدي كيف نستثمر المعرفة المعاصرة كمناهج وآليات في إعادة
تجديد النظر والفهم للنصوص الشرعية والتراث عموما..".
وأنهى كلامه مشيرا إلى أهمية "انخراط العقل المسلم في الفكر
الإنساني موجها ومرشدا ومستثمرا للأبعاد المعرفية في القرآن الكريم، ولرؤيته
للعالم وللكون وللإنسان، ونجتهد في فهم النصوص القرآنية فهما حضاريا، ثم نبسط هذه
الرؤية أمام العالم اليوم، لأن هذه القضية لا تعنينا نحن اليوم بقدر ما تعني
الإنسان بوجه عام، فالقضية ينبغي أن تأخذ بعدا كونيا عالميا بما تقدمه للإنسان
أينما كان".
جدلية الدين والواقع.. أيهما يستمد معياريته من الآخر؟
مخبر علمي بتونس عن "الظاهرة الدينية" في الإسلام والديانات الأخرى
"فلسفة الدين".. آفاق جديدة للنظر أم زندقة وهرطقة؟