لم يكن لفلسطين فريق يمثلها في
مونديال قطر، ولكن كان لها أكثر من فريق
يلعب باسمها، فاستطاعت بحضورها الطاغي في قلوب الفرق العربية ومئات الآلاف من المشجعين
العرب والأجانب، أن تفوز وتحصل على
كأس العالم منذ انطلاقه وقبل أن يُغلق الستار
على المونديال..
لم تكن
فلسطين غائبة عن مونديال قطر، بل كانت
حاضرة بقوة في كل شوارع قطر
ومنشآتها التي زُينت بالعلم الفلسطيني، وتحلت صدور المشجعين بالكوفية الفلسطينية، وتجملت
المعاصم والأيادي بشعارات نصرة لفلسطين، إنه إجماع شعبي عربي لم يحدث له مثيل من ذي
قبل، ولم تهيأ له فرصة كهذه التي منحها له مونديال 22، الذي يُقام على أرض عربية
لأول مرة، لإظهار مدى تلاحم الشعوب العربية مع الشعب الفلسطيني وإيمانه بقضيته
العادلة، وليؤكد الم
كان يحسب الإعلام الصهيوني أن تواجده في قطر لتغطية المونديال فرصة سانحة له للقاء الجماهير العربية وإجراء الحوارات معهم بغرض التطبيع، وكان الصهاينة يظنون أنه سيرحب بهم، ولكن خاب ظنهم وضاع أملهم وحدث لهم ما لم يكن في حسبانهم، فاستشاطوا غضباً من مواقف الجماهير
ؤكد، إن فلسطين هي قلب الأمة الذي ينبض ويبث فيها الروح ويبعث
لها الحياة..
إنها فلسطين التي في وجدان وفؤاد كل عربي، لقد كانت أرض قطر "تتكلم
فلسطيني" بكل لغات العالم وتتنفس هواء فلسطينيا، لقد انعقدت أول قمة للشعوب
العربية على أرض قطر، ولم يكن على جدول أعمالها غير فلسطين، فلسطين من النهر إلى
البحر، وباسم هذه الشعوب العربية أُسقط
التطبيع حتى من الشعوب التي طبعت أنظمتها
المتصهينة مع الكيان الصهيوني..
لقد رفض المشجعون العرب التحدث أو إجراء مقابلات مع إعلام الصهاينة، ولقد كان
يحسب الإعلام الصهيوني أن تواجده في قطر لتغطية المونديال فرصة سانحة له للقاء
الجماهير العربية وإجراء الحوارات معهم بغرض التطبيع، وكان الصهاينة يظنون أنه
سيرحب بهم، ولكن خاب ظنهم وضاع أملهم وحدث لهم ما لم يكن في حسبانهم، فاستشاطوا
غضباً من مواقف الجماهير، معتبرين أن العيب أو المشكلة في الجماهير وليس لتمثيلهم الكيان
الصهيوني.
تنوعت أشكال رفض الاستفزاز الإعلامي الصهيوني للمشجعين، وانتشرت مقاطع
فيديو عديدة لمشجعين عرب يرفضون التحدث إلى القنوات الصهيونية أو التعامل مع شخصيات
إسرائيلية، ويعبرون عن دعمهم الكامل للفلسطينيين، ولكن بعضها كانت له دلالة رمزية
كبيرة، كما حدث مع شابين لبنانيين أوقفهما مراسل صهيوني وقال لهما إنه من إسرائيل
فردا عليه: "اسمها فلسطين وليس إسرائيل".. أو ما صدر من رجل قطري بسيط
يبيع أعلام الدول المشاركة في المونديال ويقدم لهم علم فلسطين هدية لهم، أو ذلك
السائق الذي ركب معه أحد الأشخاص يخفي هويته، وعندما علم أنه صهيوني رفض أن يأخذ
الأجرة قائلاً: "إنكم تقتلون إخواننا الفلسطينيين"..
ولعل أبلغ رسالة جاءت من المشجعين التونسيين والمغاربة، وهي رفع علم ضخم
يحمل عبارة "فلسطين حرة" بالتزامن مع الدقيقة 48 من مباراة الأولى مع أستراليا
والثانية مع بلجيكا، ويشير الرقم (48) بالطبع إلى عام
النكبة التي احتل فيه
الصهاينة أرض فلسطين الحبيبة.
وجاء نشيد المشجعين المغاربة بعد فوزهم على بلجيكا، أقوى رسالة رفض يرسلها
الشعب المغربي للنظام الملكي الذي وقع
اتفاقية تطبيع مع العدو الصهيوني، تقول بعض
كلماته: "الحبيبة يا فلسطين، آه يا زينة البلدان، قاومي ربي يحميك من ظلم
الإخوة الأعداء واليهود الطامعين فيك، ما نتركك يا غزة رغم بعدك عني، يا رفح ورام
الله أمتنا مريضة، أمرضوها بالمشاكل وفساد الحكومات، لا نركع أبدا إلا لرب
العالمين، مولانا صاحب الكون، والحرية لفلسطين إن شاء الله في القدس الفرحة
تكون"..
لقد أصيب
مراسلو القنوات الصهيونية بالإحباط جراء رفض الجماهير العربية
الحديث عبر شاشاتهم، ما اعتبروه دليلاً على فشل اختيار التطبيع مع الشعوب العربية
والإسلامية من ناحية جس نبض الشعوب بعيداً عن الحكومات التي وقعت اتفاقيات "أبراهام"..
لقد كتبت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الصهيونية بالأمس على غلافها
مصحوبا بصور رافعي علم فلسطين: "مونديال الكراهية"، وقالت: "شوارع
الدوحة بالنسبة لنا كإسرائيليين خطيرة، الإسرائيليون محاطون بالأعداء ومهددون في كل
زاوية"، بينما غرد النائب في الكنيست عن حزب الليكود "عميحاري
شيكلي" على تويتر: "لا تتوقعوا أي شيء من قطر فهي دولة عدو بامتياز"..
ولقد قال الصحفي الصهيوني "راز شيشينك": "تجربتي بقطر أنهت
أي أمل بتحسين علاقتنا مع الشعوب العربية". وصحفي آخر قال: "لقد طردوني
من المطعم، وصاحب المطعم أخذ تلفوني وحذف منه كل صور قطر وسائق التاكسي رفض أن
يجعلنا نركب، العرب وكثير من الأجانب يغضبون ويبتعدون عنا عندما يعرفون أننا
إسرائيليون".
فشلت وسائل الإعلام الصهيونية فشلاً ذريعاً في محاولاتها التي كان مخططا لها مسبقاً، باعتبارها فرصة ذهبية للتطبيع، وجاءتهم الرسالة واضحة لا تحمل اللبس من المشجعين العرب وهي الرفض المطلق للكيان الصهيوني أو التعامل معه، أو الحديث عبر شاشاته
لقد فشلت وسائل الإعلام الصهيونية فشلاً ذريعاً في محاولاتها التي كان مخططا لها مسبقاً، باعتبارها فرصة ذهبية للتطبيع، وجاءتهم الرسالة واضحة لا تحمل اللبس
من المشجعين العرب وهي الرفض المطلق للكيان الصهيوني أو التعامل معه، أو الحديث
عبر شاشاته.. وقد عبرت عن ذلك جريدة "الغارديان" البريطانية، بعنوان
"فلسطين حاضرة بقوة في المونديال وإسرائيل منبوذة"..
كل هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن أمتنا
العربية لا تزال في خير، وأن فلسطين لا تزال ساكنة في قلب الأمة ولا يمكن خلعها
أبدا مهما حاولوا وجاهدوا، وتؤكد المؤكد أن الشعوب العربية ترفض التطبيع وأن
البوصلة لديها لا تزال سليمة وفي الاتجاه الصحيح، وأنها على يقين بأن عدوها
الحقيقي هو الكيان الصهيوني رغم هرولة الأنظمة العربية إليه واستقواء حكامها به..
مونديال قطر يستحق أن يُطلق عليه مونديال فلسطين بامتياز..
* * *
ووسط أجواء الفرحة والبهجة التي
أحدثها عرس فلسطين في مونديال قطر، تجيء المفارقة الساخرة والمؤلمة في الوقت ذاته،
من الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ أصدرت قراراً
بإحياء الذكرى الخامسة والسبعين
لنكبة فلسطين، وذلك من خلال عقد جلسة رفيعة المستوى في قاعة الجمعية العامة يوم 15
أيار/ مايو العام المقبل، وهو اليوم الذي أعلنت فيه نفس المنظمة الدولية قيام
الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948!!
لقد أصدرت قرارها هذا يوم التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي،
وهو اليوم الذي أصدرت قرارها المخزي رقم 181، الخاص بتقسيم فلسطين عام 1947، ولم
يكن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الجديد؛ المزحة الأولى لها، بل سبقتها مزحة
أخرى عام 1977، بأن اختارت يوم ذكرى تقسيم فلسطين ليكون "اليوم العالمي
للتضامن مع شعب فلسطين"، وأعلن حينها الأمين العام للأمم المتحدة في رسالته
بهذه المناسبة: "نؤكد من جديد ونحن نحتفل بهذا اليوم الدولي للتضامن التزامنا
بالتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني، فالأمم المتحدة لن تتزحزح في التزامها تجاه الشعب
الفلسطيني". ولم يقل لنا، كيف سيتم الاحتفال به، ولماذا لم يرجع حقوق
الفلسطينيين في هذا الاحتفال، وما الذي يمنعه من تنفيذ التزامه كما يدعي، ولم يوضح
لنا ما هي الوسيلة للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وهل يحق للجهة التي مكّنت الصهاينة
من اغتصاب أرض فلسطين وانتزاعها من أهلها أن تتضامن مع الشعب الفلسطيني؟!
إنه استخفاف بعقولنا من تلك المنظمة الدولية التي لم تنصف يوماً، منذ
نشأتها الشعب الفلسطيني، بل هي مَن أضاعت حقوقه وأنشأت الكيان الصهيوني فوق أرضه. إن
اختيار الأمم المتحدة لذلك اليوم المشؤوم الذي انتزع فيه قلب الأمة العربية واغتصبت
فيه أرضنا في فلسطين أمام أعين العالم أجمع، إنما يدل على مدى نفاقها وتدليسها!
أثبتت الشعوب العربية والإسلامية في مونديال قطر أن القضية الفلسطينية، لا تزال موقدة في صدورهم، ولن تنطفئ جذوتها مع مرور الزمن وتقلب الأحداث، ومهما حدث من هرولة الحكومات العربية المتصهينة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، فستظل الشعوب العربية حافظة لذاكرتها وصمام الأمان لها
ورغم أن هذا التضامن لن يعيد أرض فلسطين لأهلها الحقيقيين، إلا أننا لم نر
فعلاً إيجابياً من تلك المنظمة يعبّر أو يترجم هذا التضامن المزعوم على أرض
الواقع، لا دولياً ولا عربياً، فلقد أسقطت الحكومات العربية المتصهينة هذا اليوم
من ذاكرتها، فلم نسمع كلمة واحدة، أو نرى إشارة خاطفة أو تلميحاً من قريب أو من
بعيد، لذكرى ذلك اليوم المشؤوم على شاشات التلفزة، تُذكر جيل النكبة بل والمسلمين
جميعاً باغتصاب فلسطين، وتوضح لأبناء الأمة الإسلامية كيف احتُلت فلسطين، لتظل
فلسطين حية في وجدانهم وذاكرتهم!
ويأتي هذا التجاهل المتعمد من قِبل الحكومات العربية المتصهينة، تمشياً مع
سياسة التطبيع التي تنتهجها تلك الدول والتي أصبحت تخرج للعلن دون استحياء، كما
كان يجري في الماضي!
إن صناعة ذاكرة التاريخ، تتطلب بالضرورة إحياء المناسبات التاريخية في ذاكرة
الشعوب، حلوها ومرها، وخاصة تلك التي غيّرت مجريات التاريخ وحولت مسارات الأمم،
منعاً للعبث في تاريخها وشحذاً لهمم الأجيال القادمة، وهذا ما تفعله كل بلدان
العالم إلا البلدان العربية للأسف والأسى الشديدين..
ولقد أثبتت الشعوب العربية والإسلامية في مونديال قطر أن القضية
الفلسطينية، لا تزال موقدة في صدورهم، ولن تنطفئ جذوتها مع مرور الزمن وتقلب
الأحداث، ومهما حدث من هرولة الحكومات العربية المتصهينة للتطبيع مع الكيان الصهيوني،
فستظل الشعوب العربية حافظة لذاكرتها وصمام الأمان لها لتكون السد المنيع لمرور
التطبيع..
twitter.com/amiraaboelfeto