*
من الأقوال المروية في بعض كتب التراث (ومنها كتاب الفتن لابن حمّاد) أنّ الشمس تُصدِر
صليلاً مهيباً ساعة الغروب. وتمضي الرواية قائلةً إنه "لولا لغط أهل روميّة"
لكان بوسعنا أن نسمع الصليل بأنفسنا في ديار الإسلام، فعائق السمع ليس بُعد
المسافة، وإنما ضجيج الروم الواقفين بيننا وبين الشمس ساعة غروبها. تحمل هذه
الرواية رمزية غريبة لمن يقرأها اليوم، وهي تحكي -بمجاز لم تقصده- شيئاً بليغاً عن
انسداد حواسنا -وبعض أذهاننا وخيالنا- بضوضاء روميّة ولغط أهلها. كان يمكن
للاستضافة القطرية للمونديال أن تناقَش على مستويات عديدة من منظور عربي وضمن
سياقنا الخاص؛ وجاهة استضافة بلدٍ عربي لحدث كهذا، وعلاقتنا بهذه اللعبة وبالرياضة
عموما، ومسألة التكاليف وأولويات الإنفاق في العالم العربي. هذا كلّه ضاع في اللغط
الرومي عن قوس قزح ولُفافة "الحبّ الواحد". وسواء رضينا أم غضبنا،
فأجندة النقاش باتت هناك.. في لغط الروم، لا في الشمس وصوتها المحجوب.
* قبل 130
عاما، كتب روديارد كبلنغ قصيدةً ذاعَ منها سطرٌ دون سواه: "الشرق شرق، والغرب
غرب، ولن يجتمعا أبدا". يبدو اليوم وكأن صوتاً خفيا يدندن بيت الشعر هذا في خلفية
الحدث الكروي، وكأنه تعليق من نوع آخر يصحب كل مباراة، ويحوم فوق الحدث لا داخلَه.
ولا أعرف إن كان التاريخ عرف "لقاءً وديا" بين الشرق والغرب انتهى لهذا
القدر من الافتراق والتمترس المضاد.
لم تكن هذه المسرحية الليبرالية غريبةً في لغتها عن الجمهور العربي، فالسنوات الماضية شهدت دفعاً كبيراً لقيم غربية في المضمار الاجتماعي صوب الساحة العربية، وتم تثقيف الناطقين بالضاد بآخر التحديثات الأوروبية عن معنى الخير والشر والتقدم والتأخر، ومفهومَيّ المرأة والرجل (وما يقع بينهما)
* مفارقات
عديدة لفّت مجريات الأحداث، لعل فاتحتَها أن الجهة المضيفة بدت وكأنها تقدّم الإسلام
بوصفه ثقافةً (قيم عامة، اقتباسات عن التسامح، كلام عن المحبة)، فيما الضيف
الأوروبي صعّد المسألة
المثلية لمنزلة العقيدة الغيبية (رمز مقدّس، طقوس جماعية،
وكثير من الطهرانية). وفي الهيئة العامة، ظهر التفجّع
الغربي على رموز المثلية
ومنع ارتدائها وكأنه خطاب شيوخ وقساوسة يبكون نزع الحجاب عن النساء أو كسر الصلبان
على رؤوس الكنائس. لم تكن هذه المسرحية الليبرالية غريبةً في لغتها عن الجمهور
العربي، فالسنوات الماضية شهدت دفعاً كبيراً لقيم غربية في المضمار الاجتماعي صوب
الساحة العربية، وتم تثقيف الناطقين بالضاد بآخر التحديثات الأوروبية عن معنى الخير
والشر والتقدم والتأخر، ومفهومَيّ المرأة والرجل (وما يقع بينهما).
* استثمر
الغربيون -بكرمِ مشهود- في صحف وقنوات وجمعيات عربية، علاوة على مثقفين ونشطاء،
وعرّبوا من خلال هؤلاء خطابا قيمياً أوروبياً معروف الأركان. كان التعريب في أغلبه
نقلا ميكانيكيا أميناً، مصطلحا بمصطلح وتعبيرا بتعبير (مجتمع الميم، النضال
الكويري، الذكورية السامة، البنية الأبوية..). ولا شك أن هذا الاستثمار نجح بدرجات
متفاوتة في تغيير اللغة والمزاج الاجتماعي لدى قطاعات في العالم العربي. بعض
المشاركين في مشروع الترجمة هذا مقتنعٌ فعلا بهذه المنظومة، لكنه ليس واعياً
بالضرورة كيف اقتنع بها في المقام الأول، ولأي حدٍّ كان اقتناعُه دونيةً فكرية
لطرف مغلوب أمام طرف غالب. لا حلّ لهذه الدونية، حتى وإن كتب عنها ابن خلدون منذ ستة
قرون، فالوعي بها شيء والإفلات منها شيء آخَر تماما.
لكن
الأهمَّ الذي كشفه الحدث الحالي هو مدى استخفاف الممول الأوروبي بكتيبة المعرِّبين
هذه، وترْكِهِم في أسوأ وضع يمكن تخيله أمام جمهورهم العربي. لم يُسمح لأي من
هؤلاء أن يتصدّر الحديث عن القضايا التي انتُدبوا للكتابة والحديث عنها في السنوات
الماضية، فالخواجة الأجنبي شمّر عن ساعديه وقرر أن يقود المعركة بنفسه. وفي خضم
تشميره وخوضه للمعركة، فعل صديقنا الأوروبي شيئا مدهشا يجدر بخبير نفسي أن يحلله:
أنه جعل من قيَمهِ في مسألة المثلية متنفساً لعصبيته المكبوتة تجاه المشرق، وكأنه
اكتشف طريقة يُخرج عبرها الكراهية المحبوسة داخلَه على هيئة عُصبة يلفّها على
ذراعه ويرسم عليها رمزا للحب. هكذا، تحوّلت صورةٌ لقلبٍ يفيض بالألوان رمزاً لكبدٍ
يعتصره المقت. ليس هذا النمط من التعبير المقلوب غريبا عنا، فتراثنا الأدبي زاخر
بأمثلة الذمّ الذي في هيئة المديح، والكراهية المتنكرة في كلام الغزل.
*
واكبَت كبرى المحطات الغربية افتتاحَ الحدث عبر لطميات أخلاقية على الهواء مباشرة،
وقدّمت بكائيات يصعب أن تثير عربياً إلا واحداً من اثنين: الضحك أو الغثيان. ونشأت
-بالمقابل- حماسة جماعية في العالم العربي لجمع الشواهد والقرائن على الازدواجية الغربية
والنفاق المصاحب لها، لكن الواقع أن أحدا لا يحتاج أن يُجهد نفسه بأي من هذا، إذ
أن التناقض قائم في ذات الموقف والمكان: أن السيد الأوروبي (ذا اللفافة الملونة)
ارتكب جريمة بحق الأفراد الذين يزعم الحرص عليهم في العالم العربي، ونجاحُه الوحيد
هو أنه ثبّت في وعي الكثيرين قناعةً تآمرية ترى في المسألة المثلية تقليعةً غربية
بهدف سياسي وثقافي مضمر.
الأهمَّ الذي كشفه الحدث الحالي هو مدى استخفاف الممول الأوروبي بكتيبة المعرِّبين هذه، وترْكِهِم في أسوأ وضع يمكن تخيله أمام جمهورهم العربي. لم يُسمح لأي من هؤلاء أن يتصدّر الحديث عن القضايا التي انتُدبوا للكتابة والحديث عنها في السنوات الماضية، فالخواجة الأجنبي شمّر عن ساعديه وقرر أن يقود المعركة بنفسه
*
في خضم التعريب الذي حصل لقاموس
القيم والأفكار الغربية، استُقدِم مفهوم
"التقاطعية" قبل بضع سنوات بوصفه إطاراً ذهنيا يوحّد مظلوميات مختلفة ويدرس
تشابكها واستحالة فصلها، ويجمع السعي للحرية الجنسية بالمساواة العرقية والتحرر
السياسي ضمن كتلة واحدة. وهكذا أصبح النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، والنضال من
أجل "التحرر الكويري" مسائل مرتبطة ببعضها، بل لا تُخاض إلا سويا لأن
"الحرية لا تتجزأ" و"لا حرية للمجتمع قبل حرية الفرد" وغيرها
من مقولات المعجم التقاطعي وملاحقه. وصارت المجاورة بين العلم الفلسطيني وشارة قوس
قزح ببعض مظاهرات النشطاء واحدةً من رموز هذه التقاطعية المعرّبة. لكن اللافت في
الأيام الماضية هو الطريقة التي تحوّل فيها علم فلسطين رمزاً قيميا مضاداً، وردّاً
معاكساً على الشارة المثلية. ومَن قرأ التنظيرات المطوّلة التي نٌشرت عربيا عن
مسألة التقاطعية، سيضحك داخل نفسه وهو يرى نقيضها الأقصى يتجلى عفوياً على الأرض وعلى
يد جماهير رياضية لربما لم يسمع كثير منها بالمصطلح من أساسه. وإذا كان لكل هذا من
دلالة تستحق القراءة، فهو في هشاشة الأفكار المترجَمة والقيم المعرّبة التي تُنزَل
على المجتمعات إنزالا ولا تنمو من داخلها.
* لن تكون
صافرة النهاية في المباراة الأخيرة إلا صافرة بداية لمباراة من نوع آخر بين مزاجين
قيميين مختلفين جداً. وسيكون مثيرا أن يرصد المرء التحوّل الذي سيلحق بمشروع
التعريب القيمي القائم منذ سنوات، فقد شُحن المزاج العام ضده وضد قاموسه لأعلى
مستوى يمكن تخيّله خلال الأيام الماضية. وحتى مؤسسات الإعلام العربي التي كانت تقارب
التابوهات الليبرالية بحذر، وتحرص ألا تستفز أنصارها التقدميين، أصبحت أكثر جرأة
على مهاجمتها علنا. كيف سيتطور هذا التغير بعد انقضاء الورشة الكروية.. هذا سيكون
جديرا بالمتابعة.
* بعيداً عمّا
ستؤول له الأمور في النهاية، يبقى أملٌ مستبعدُ الحصول لكنه حتماً أقرب الآمال
لقلب المرء: أن يأتي يومٌ نقود فيه إصلاحنا بالأصالة عن نفسنا، لا ترجمةً عن غيرنا،
وأن نملك من الخيال والشجاعة ما يكفي لخوض معركةٍ ضد أعطابنا الاجتماعية ومشاكلنا
الكثيرة، بعيدا عن لغط روميّة وسطوة أهلها.