بغضّ
النظر عما أظهرته "المحطات التاريخية" حسب سردية أنصار "تصحيح
المسار" (أو خارطة الطريق الرئاسية للخروج من حالة الاستثناء وتأسيس "جمهورية
جديدة") من هوة شاسعة بين دعوى تمثيل الشعب وإرادة
التونسيين، بحكم العزوف
الكبير عن المشاركة في الاستشارة الإلكترونية ومن بعدها في الاستفتاء على الدستور،
أكدت بعض عمليات سبر الآراء الموثوقة تدني شعبية الرئيس بصورة غير مسبوقة منذ سنة 2019. فقد بلغت شعبيته حسب سبر للآراء قامت به
مؤسسة "إنسايتس تي إن"
حوالي 2.23 في المائة خلال شهر شباط/ فبراير. وحسب سبر
الآراء ذاته، فإن 8.64 في المائة من التونسيين يعتبرون ما حصل يوم 25 تموز/ يوليو 2021 انقلابا، بينما دعم 5.78 في المائة من المشاركين إجراء انتخابات
رئاسية سابقة لأوانها.
إننا
أمام معطيات موضوعية من المرجح أن تؤكدها نسبة المشاركة المتوقعة في
الانتخابات
التشريعية القادمة، كما نرجح أن تؤكد هذه الانتخابات تحوّل القاعدة الاجتماعية
للرئيس من الشباب الجامعي المعطّل والمثقفين إلى كبار السن وأصحاب التحصيل الدراسي
المتدني (82 في المائة ممن شاركوا في الاستفتاء كانوا من
المسنّين، وممن لا يحملون شهادة الباكالوريا). ولكنّ ذلك كله لم يكن -إلى حد هذه
اللحظة- ذا تأثير في تغيير موازين القوة بين الرئيس والمعارضة. فجميع أطياف المعارضة
لم تتجاوز في تحركاتها منطق "المهرجانات الخطابية" من جهة أولى، وحالة
التشرذم والنفي المتبادل من ناحية ثانية.
تؤكد المعارضة عجزها عن توسيع قاعدتها الاجتماعية وتجاوز المربعات التقليدية للاحتجاج الذي لا يتجاوز مستوى التنفيس الدوري عن واقع محدوديتها، بل تبرهن "المعارضات" كلها على فقر مدقع في الخيال السياسي وفي اجتراح البديل "الجامع"
وفي
حين يبدو الرئيس- المنقذ غير مشغول بواقع عزلته السياسية ولا بالوضع الاقتصادي
الكارثي للبلاد، بقدر انشغاله
بإحكام قبضته على مختلف مفاصل السلطة، تؤكد المعارضة عجزها
عن
توسيع قاعدتها الاجتماعية وتجاوز المربعات التقليدية للاحتجاج الذي لا يتجاوز
مستوى التنفيس الدوري عن واقع محدوديتها، بل تبرهن "المعارضات" كلها على
فقر مدقع في الخيال السياسي، وفي اجتراح البديل "الجامع"، وذلك من خلال
تثبيت جملتها السياسية فيما قبل 25 تموز/ يوليو، دون أي نقد ذاتي أو مراجعات
جدية لخياراتها خلال تلك الفترة.
لفهم
واقع المعارضة التونسية، قد يكون علينا أن نحدّد مكوناتها وطبيعة علاقاتها البينية
من جهة أولى، وعلاقتها بالسلطة (أو بنواتها الصلبة التي تتحكم في القرار من وراء
الرئيس) من جهة ثانية. ولا شك في أن "معارضات الرئيس" في الحقل السياسي، لا تخرج إجمالا عن ثلاثة مكونات أساسية (رغم وجود
أحزاب أخرى، ولكنها غير مؤثرة ولا
ذات قواعد انتخابية مهمة): جبهة الخلاص الوطني (متكونة
أساسا من حركة
النهضة وائتلاف الكرامة، وبعض نواب قلب تونس وبعض الشخصيات
المستقلة)، وتنسيقية الأحزاب الاجتماعية (متكونة من خمسة أحزاب يسارية)، والحزب
الدستوري الحر (متكون أساسا من ورثة التجمع الدستوري المنحل من المعادين للثورة
ولكل مخرجاتها، خاصة وجود حركة النهضة في وضعية الفاعل السياسي القانوني).
تعكس
خارطة المعارضة أعلاه "فسيفساء" من القوى السياسية والمرجعيات الأيديولوجية
المتباينة، كما يعكس تاريخها علاقات مختلفة سواء بالمنظومة السابقة، أو بنظام
الرئيس
قيس سعيد قبل انقلاب 25 تموز/ يوليو أو بعده. فالنهضة وائتلاف
الكرامة وقلب تونس كانوا دائما محل استهداف مشترك من "الأحزاب
الاجتماعية"، وقد تحالفت بعض مكونات "تنسيقية الأحزاب الاجتماعية" مع
الرئيس منذ انتخابات 2019، وساند بعضها "تصحيح المسار (خاصة
التيار الديمقراطي)، قبل أن ينقلب موقفه إلى المعارضة الصريحة للرئيس، خاصة بعد المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021. ورغم مشاركة بعض مكوّنات التنسيقية في
الحكم زمن الترويكا (التكتل والتيار الديمقراطي)، أو خلال مرحلة التوافق (القطب)،
فإنها جميعا تشترك مع الرئيس
واتحاد الشغل في تحميل النهضة أساسا (لا المنظومة
القديمة وورثة التجمع وحلفائهم في اليسار الوظيفي)، المسؤولية عن "العشرية
السوداء".
يبدو أن "نكبة" الديمقراطية لم تدفع بحركة النهضة وحلفائها إلى تطوير جملتهم السياسية، وتقديم خطاب جديد يتجاوز التغني بالديمقراطية والتمثيل الشعبي والتخويف من الاستبداد وحكم الفرد، كما تبدو الجبهة عاجزة عن تقديم وجوه جديدة لا تعيد تدوير الوجوه التوافقية "سيئة السمعة"، أو بعض وجوه المعارضة "الحداثية" ذات المصداقية المحدودة بين عموم الشعب
أما
الحزب الدستوري الحر (وريث التجمع الدستوري المنحل)، فإن إدراجه في
"المعارضة" قد يثير إشكالا كبيرا، خاصة إذا ما استحضرنا الدور المركزي
الذي قامت به زعيمته عبير موسي في ترذيل مجلس النواب، وشيطنة الديمقراطية التمثيلية
والنظام البرلماني المعدّل، وإذا ما استحضرنا كذلك التقاء هذا الحزب مع الرئيس في
الاستهداف الممنهج لحركة النهضة وحلفائها قبل 25 تموز/ يوليو وبعده، بالإضافة إلى
طبيعة البنية السلطوية للنظام الحالي، تلك البنية التي لم تتخلص إلا من بعض
المحسوبين على النهضة، واستبقت الأغلب الأعم من الرأسمال البشري الشيو- التجمعي في
أهم مفاصل السلطة.
ولذلك
يمكننا اعتبار الحزب الدستوري الحر "معارضة" من داخل الانقلاب، لكن في
خدمة "المشروع
الاستئصالي الصلب"، على عكس تنسيقية الأحزاب الاجتماعية، التي هي أقرب إلى منطق "الاستئصال الناعم" بحكم تجنبها منطق المقاربة
الأمنية، أو الاستهداف النسقي لحركة النهضة على أساس أيديولوجي. فالتنسيقية تميل
إلى إقصاء النهضة (أو على الأقل الحد من هيمنتها على الحقل السياسي)، لكن بتوظيف
ملف الفساد بعد أن تختزله في الحركة دون باقي شركائها في الحكم، (وهو ما يجعلها
تلتقي موضوعيا مع سردية الرئيس دون أن تتماهى مع "تصحيح المسار"
وخياراته الاستبدادية أو الشعبوية). ورغم انتماء مكونات هذه التنسيقية لليسار، فإن
عدم استفادتها من الأدبيات المناهضة للكولونيالية ولتجارب اليسار اللاتيني في
"لاهوت التحرير"، يجعلها واقعيا أقرب إلى استصحاب منطق التناقض الرئيس
والتناقض الثانوي منها، إلى تمثيل قاعدة لأي مشروع وطني يتجاوز الصراعات الهوياتية
البائسة.
وفيما
يخص حركة النهضة وحلفاءها في "
جبهة الخلاص"، فإن هذه التشكيلة هي أبعد
ما تكون عن تجسيد مفهوم "الكتلة التاريخية" -أي قاعدة بديل من خارج
المنظومة- رغم انتماء العديد من شخصياتها الرئيسية إلى خلفيات أيديولوجية مختلفة.
فنحن أمام إعادة تشغيل لمفهوم "الكتلة التوافقية"، لكن مع بعض التعديلات
التي لا تمس جوهر هذا الخيار الكارثي على مسار الانتقال الديمقراطي في تونس. ويبدو
أن "نكبة" الديمقراطية لم تدفع بحركة النهضة وحلفائها إلى تطوير جملتهم
السياسية، وتقديم خطاب جديد يتجاوز التغني بالديمقراطية والتمثيل الشعبي والتخويف
من الاستبداد وحكم الفرد، كما تبدو الجبهة عاجزة عن تقديم وجوه جديدة لا تعيد
تدوير الوجوه التوافقية "سيئة السمعة"، أو بعض وجوه المعارضة
"الحداثية" ذات المصداقية المحدودة بين عموم الشعب.
سقوط النظام الحالي يعني في الوعي العفوي للمواطن عودة المنظومة السابقة بخياراتها ومكوناتها وأزماتها، أي عودة الصراعات الهوياتية، والمال السياسي المشبوه، ومشاهد ترذيل البرلمان والصراع بين الرئاسات الثلاث، وتغول النقابات الأمنية، وعطالة القضاء ومنطق المحاصصة في تشكيل الهيئات الدستورية
لعل
المعضلة الأكبر التي تواجه المعارضة في تونس، هي عجزها عن تغيير مواقعها/ خطاباتها
القديمة، بصورة تقنع المواطن التونسي بأنه أمام طرح جديد قد يمثل أساسا لبديل
"موثوق" لنظام الحكم الحالي. فسقوط النظام الحالي يعني في الوعي العفوي
للمواطن عودة المنظومة السابقة بخياراتها ومكوناتها وأزماتها، أي عودة الصراعات
الهوياتية، والمال السياسي المشبوه، ومشاهد ترذيل البرلمان والصراع بين الرئاسات
الثلاث، وتغول النقابات الأمنية، وعطالة القضاء ومنطق المحاصصة في تشكيل الهيئات
الدستورية، وغير ذلك من مظاهر الأزمة التي ما زال إمكانُ تكررها يُنفّر جزءا كبيرا
من التونسيين من دعم المعارضة، رغم يقينهم بأن الرئيس ليس إلا "ظاهرة
صوتية" عاجزة عن تغيير الواقع في مختلف أبعاده. ولا يعني كل ما تقدم واقعيا
إلا غياب بديل سياسي مقبول بين عموم التونسيين في المدى المنظور، وهو ما قد ينفخ
في أنفاس النظام الحالي، لكن إلى حين.
إننا
أمام حقيقة جوهرية يحاول كل الفاعلين الجماعيين الالتفاف عليها؛ إن الأزمة
الحقيقية في تونس هي أزمة بنيوية تمتد جذورها إلى الخيارات الكبرى لما يسمى بالدولة
الوطنية أو الدولة- الأمة، وليس انقلاب 25 تموز/ يوليو ليس إلا مجرد أزمة من الأزمات الدورية التي عرفتها تونس منذ الثورة،
بعد أن عجزت النخب كلها عن القطع مع تلك الخيارات والأساطير المؤسسة لها. ولذلك
فإن بقاء النظام الحالي أو سقوطه -بحكم غياب البديل الوطني الحقيقي أو
"الكتلة التاريخية"-، لن يكون إلا لحظة من لحظات التغير في مستوى السطح
بمباركة "النواة الصلبة للحكم" ورعاتها
الإقليميين والدوليين، ولكنها لن تكون أبدا لحظة التحرر أو التأسيس الجديد من
منظور استحقاقات الثورة وانتظارات عموم المواطنين، مهما كانت ادعاءات السلطة
ومعارضتها.
twitter.com/adel_arabi21