منذ أن تولى الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم في
قطر منتصف
تسعينيات القرن الماضي، بدا أن هذه الدولة الصغيرة والهامشية والمنسية، على موعد مع
انعطافة استراتيجية ستضع البلد في مصاف الدول العربية الفاعلة على مستوى الإقليم
والعالم.
منح استكشاف الغاز المسال قطر ثورة مالية هائلة جعلها قادرة على بناء
البلد من الصفر وجعلها ضمن مصاف الدول المتطورة على صعيد البنى التحتية، والمؤسسات
التعليمية، والصحية، والخدمية.
لكن الأمر لا يتعلق بالثروة وحدها، بقدر ما يتعلق الأمر بالرؤية
الاستراتيجية لدى صناع القرار في قطر، وفي مقدمهم الأمير الوالد الشيح حمد ثم رئيس
الحكومة الأسبق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني.
الجغرافيا السياسية
أثبتت كثير من التجارب التاريخية، خصوصا العربية خلال العقود الثلاثة
الماضية، أن الجغرافيا الاستراتيجية قد لا تكفي وحدها إذا افتقدت إلى رؤية
استراتيجية لدى صناع القرار، كما هو حال مصر والسعودية: الأولى تحولت بعد كامب
ديفيد من قيادة الأمة العربية إلى وسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكثيرا ما
كان وسيطا غير نزيه، وهكذا فقدت مصر دورها الريادي العربي في الدفاع عن حقوق الأمة.
أما السعودية، وبسبب افتقار الحكم فيها بعد عام 2000 إلى رؤية
استراتيجية وإلى وعي بمقدرات المملكة، فقد تحولت إلى متفرج في محيط حدودي متغير:
كانت الساحة العراقية بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ساحة مفتوحة للتدخل
السعودي، ولفرض الرياض وجودها ضمن امتدادها السني، غير أن التراخي السعودي فسح
المجال لإيران وللنظام السوري بملء الفراغ، إلى أن انتهى المشهد العراقي مناصفة
بين الأمريكيين والإيرانيين، وبقيت السعودية بوزنها الإقليمي لاعبا صفريا في
الساحة العراقية.
على الصعيد اللبناني، انتهت الاستراتيجية السعودية إلى فشل ذريع، كان
من نتائجه الانقلاب على الحليف التاريخي، ممثلا بعائلة الحريري.
وفي اليمن، الحديقة الخلفية للملكة، كان الفشل هو العنوان الأبرز
للسياسة السعودية، في المرحلتين: الأولى بين عامي 2011 ـ 2014، والثانية بين عامي
2014 وحتى الآن.
وهكذا، شكلت الحالتان المصرية والسعودية نموذجا لتعطل الجغرافيا
السياسية، وتحولها إلى عبء إستراتيجي، في حين منحت الإرادة السياسية والرؤية
الاستراتيجية لدولة صغيرة مثل قطر، ثقلا على مستوى الإقليم وعلى مستوى العالم.
الإرادة السياسية
بخلاف إمارة دبي التي أرادت التحول إلى مدينة عالمية، مع ما في ذلك
من اضطرارها إلى تغيير القوانين لتتلاءم مع المعايير القانونية الدولية، أرادت قطر
تأسيس قوة استراتيجية ناعمة تجعلها فاعلا على المسرح الإقليمي والدولي.
لقد كانت فكرة إطلاق قناة عالمية (الجزيرة) آنذاك فكرة غامضة ومجهولة
التأثير، بل لقد ذهب البعض إلى أنها خطوة لا معنى لها، غير أن الأحداث أثبتت أن
إطلاق قناة "الجزيرة" كان يعكس رؤية بعيدة المدى للأمير الوالد، حولت
أنظار العالم كله تجاه الدوحة، خصوصا خلال الحربين الأمريكية على كل من أفغانستان
والعراق.
ثم جاءت أحداث الربيع العربي عام 2011 لتجعل من قناة
"الجزيرة" صوتا للمستضعفين والثوار العرب، وأداة حرب ضد الأنظمة
الاستبدادية العربية، فكان الهجوم العربي على الدوحة.
لقد استضاف العرب كأس العالم عبر البوابة القطرية، وكان للعرب أول قناة عربية على مستوى العالم من البوابة القطرية، وكان تنازل حاكم عن حكمه استثناء قطريا لم تعرفه المنطقة إلا فيما ندر.
ترافق صعود قناة "الجزيرة" على مستوى العالم مع تحرك قطري
في بعض الملفات العربية الحساسة، مثل اتفاق الدوحة عام 2008 حول الوضع اللبناني،
واتفاق الدوحة للسلام في دارفور عام 2011، ثم الانخراط في قضايا الربيع العربي،
خصوصا في مصر وسوريا.
ومع التغيرات الهائلة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات العشر
السابقة، والتحولات في
المواقف السياسية لكثير من الدول، حافظت دولة قطر على
استراتيجية الوفاء السياسي، وهي استراتيجية قطفت ثمارها بعيد الانسحاب الأمريكي
السريع من أفغانستان.
عدم قطع قطر لعلاقتها مع طالبان خلال السنوات العشرين السابقة، جعل
منها المايسترو السياسي الوحيد في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي، وهكذا تحولت
الدولة إلى مقصد لكل مسؤولي العالم من الشرق والغرب لكل من يريد التفاوض مع طالبان.
كأس العالم
كانت فكرة استضافة كأس العالم في قطر فكرة خيالية إن لم تكن صعبة
المنال، وتحديا عالميا عجزت دول كثيرة عن التفكير في استضافته.
لا تتعلق فكرة استضافة هذا الحدث العالمي الكبير بالمردود المالي،
فهذا أمر خارج المفكر فيه لدى الأمير الوالد آنذاك، بقدر ما كان ناجما عن وعي
الأهمية والمكانة التي ستحظى بها قطر باستضافة هذا الاستحقاق الرياضي.
وفيما كانت أنظار العالم عام 2001 تشاهد أحداث أفغانستان من عدسة
"قناة الجزيرة" من الدوحة، كانت قطر على مدى شهر كامل (كأس العالم) محط أنظار
العالم بأسره، مع اندهاش وإعجاب عالمي بمستوى التنظيم ومستوى التقنية المستخدمة
ومستوى البنية التحتية الرياضية التي ضاهت، بل فاقت مثيلاتها في العالم المتطور.
ليست مهمة هذا المقال كيل المديح لقطر وحكامها، فهذه ليست مهمة كاتب
السطور المهتم في بناء وتطوير الديمقراطية في عالم عربي يفتقد إلى الديمقراطية، لكن
ذلك لا يمنع بتاتا من تسليط الضوء على خطوات استثنائية لم تقم بها أية دولة عربية
باستثناء دولة قطر.
لقد استضاف العرب كأس العالم عبر البوابة القطرية، وكان للعرب أول
قناة عربية على مستوى العالم من البوابة القطرية، وكان تنازل حاكم عن حكمه استثناء
قطريا لم تعرفه المنطقة إلا فيما ندر.