حظي
التراث العربي ولغته بعناية الناطقين به وغير الناطقين، فرأينا
سريعا من دخلوا الإسلام، أو عاشوا بين جنبات حواضره، سرعان ما تعلموها وأتقنوها،
بل وخدموها أكثر من كثيرين من أهلها، وقد رأينا عددا غير قليل ممن قعدوا القواعد،
وأسهموا بسهم وافر في خدمتها من العجم.
وكذلك رأينا غير المسلمين العرب من المسيحيين، يخدمون التراث العربي،
ويعتنون به عناية فائقة، رغم أن العناية به تلتصق التصاقا تاما بكتابه الخالد، وهو
القرآن الكريم، وظل هذا الاهتمام مستمرا إلى عصرنا الحديث، لكن هناك ملحوظة علمية
لافتة للنظر وهي: أن هناك فرقا واضحا وجليا بين مسيحيي مصر، وغيرهم من المسيحيين
العرب، فتجد تقصيرا لافتا لمسيحيي مصر سواء من النخبة الفكرية أو اللغوية، عن خدمة
العربية، بينما تجد العكس تماما من عدد من مسيحيي البلدان العربية، مثل: لبنان
وسوريا والعراق وغيرهم.
وقد كان من لفت النظر لهذه الملحوظة أستاذنا الأستاذ الدكتور محمد
عبد الله الشرقاوي، أستاذ الأديان المعروف، وإن خالفه في جزء منها صديقنا الأستاذ
الدكتور خالد فهمي، وهو متخصص في المعاجم واللغة، وملم إلماما كبيرا بمن اهتموا
وعنوا بالتراث مسلمين ومسحيين، ومستشرقين.
والذي يراجع الإحصاءات ويقارن بين جهد الفريقين مسيحيي العرب ومسيحيي
مصر، سيجد أن الأخيرين هم الأقل جهدا، رغم أن مصر وعطاءها العلمي وخدمة التراث
تاريخيا كان لها قصب السبق، والقدح المعلى، فيعد من المستغرب هذا الإقلال بالفعل
من عناية مسيحيي مصر من أهل الفكر واللغة، بالتراث العربي ولغته.
فنجد في الجانب العربي كثرة وثراء في العطاء في هذا الجانب، فنجد
مثلا: الأب أنستاس الكرملي، وهو عراقي من أب لبناني، وكان للرجل إسهامات ونقاشات
لغوية مذهلة، بلغ به اهتمامه أن أصدر مجلة متخصصة في اللغة العربية، أسماها: مجلة
(لغة العرب)، فضلا عن المؤلفات المهمة والماتعة في اللغة، والمقالات والنقاشات
والسجالات العلمية في مجلات عربية كبرى مثل: الرسالة، وغيرها، دلت على مكانة الرجل
وعمقه في اللغة وخدمتها.
وكذلك: كوركيس عواد، فهرسة مخطوطات التراث لعربي والإسلامي، وفهارس
وكشافات لعدد من العلماء، وفي مقدمتهم سيبويه، وجهود أخرى مهمة يقف عليها كل من
راقب جهد الرجل في هذا الجانب، وعطاءه المتنوع فيها خدمة لهذا التراث وعناية به.
ولويس شيخو اليسوعي، وهو واحد من آباء الكنيسة اليسوعية الشامية، وهو
من الشام، وتأسيسه لمجلة المشرق، وقد نشر عددا كبيرا جدا من نصوص التراث العربي
اللغوية والحضارية الأثرية المتعلقة بحمامات دمشق وأسواق الشام وغيرها، وحقق كتاب
(فقه اللغة) للثعالبي، وللأسف تصرف في بعض المصطلحات العبادية والاعتقادية
الإسلامية بشكل غير علمي، فقد لاحظ الدكتور خالد فهمي أنه قام بالتصرف لدرجة
الحذف، وعدم الإشارة.
كما نجد أسماء أخرى مثل: بطرس البستاني، صاحب موسوعة دائرة المعارف،
وأول قاموس عربي عصري بعنوان: معجم محيط المحيط، وكذلك: مارون عبود، ويعقوب صروف
الذي أصدر مجلة (المقتطف)، وهي مجلة حافلة تجمع بين العلم والفكر والأدب والفلسفة،
ورشيد سليم الخوري، وجميل حنا حداد، وكانت له اشتغالات بالغة بالنحو العربي،
وتحقيق تراث ضخم ومهم للمجاشعي النحوي وغيره، وأسماء كثيرة يصعب حصرها في مقال
واحد.
أما
جهود المدرسة المصرية المسيحية في خدمة التراث والتحقيق، فقد
اهتمت بتحقيق نصوص مهمة متعلقة بالتراث الجعفرافي والري، والزراعة المصرية
القديمة، مثل: دكتور عزيز سوريال عطية، وهو أستاذ التاريخ للعصور الوسطى بجامعة
الإسكندرية، وحقق كتاب: (قوانين الدواوين) لابن مماتي، وهو وزير الدولة المصرية
لدى صلاح الدين الأيوبي، وقد كان ابن مماتي مسيحيا ثم أسلم، وكان شاعرا وأديبا،
وله كتاب ملأه بالافتراءات على بهاء الدين قرافوش، بعنوان: (الفاشوش في حكم
قراقوش)، وإن كان بصيغة أدبية فكاهية، لكن للأسف اتخذه البعض مادة تاريخية!
وكذلك ما يقوم به دير الآباء الدومينكان في القاهرة، من عناية شديدة
بالتراث الإسلامي، منذ عهد الأب جورج شحاتة قنواتي، وكان خادما مهما للعربية، وهو
من أفاضل المسيحيين المصريين، وقد أشرف فترة على قسم التراث والمخطوطات بدير
الآباء الدومينكان الواقع بالدراسة بجوار الأزهر الشريف.
إذا كان المسيحيون العرب قد أولوا التراث العربي اهتماما، وعناية وتحقيقا، فإن هناك جهودا مهمة للمسلمين العرب في الاهتمام بالتراث المسيحي واليهودي، وقاموا بنشره وتحقيقه،
ولا يمكن أن نغض الطرف عن بعض التجارب الفردية لأشخاص نبع من داخلهم
حب العربية والتراث العربي والإسلامي، ولكنها فلتات خارج السياق، ونالت هجوما،
مثل: الدكتور نظمي لوقا، وحين قرر كتابه: (محمد الرسالة والرسول) على طلبة
الثانوية، حدثت ضجة، واضطرت الدولة بعد ذلك لمنع تدريس الكتاب مراعاة لمعارضة بعض
قيادات المسيحية في مصر، ولا أدري لم حدث هذا الضجيج؟!
هذا العرض السريع للعناية بالتراث العربي بين مسيحيي مصر والعرب،
يبين رجحان كفة غير المصريين في العطاء والاهتمام، وبخاصة في الفترة التي بدأت
تنشأ فيها جماعة (الأمة القبطية)، فمنذ نشاطها وقد بدأ الاهتمام بالتراث العربي
ولغته يقل ويضمحل، وبخاصة في الجانب الأرثوذوكسي المصري تحديدا، مع بروز مشروع
البابا شنودة والأمة القبطية، بل بدأت تزداد نبرة الاهتمام أكثر بالحديث عن اللغة
القبطية، والمطالبة بتدريسها، وهي دعوة بدأت في أواسط النصف الأول من القرن
العشرين في المجلات والدوريات.
فرغم أن شنودة خريج آداب، وحصل على ماجستير في الأدب العربي، وكثيرا
ما كان يباهي في حواراته الصحفية، بأنه يحفظ ألفي بيت من الشعر، وله ديوان شعر نشر
قبيل وفاته، أي: أنه يمتلك القدرة على الحديث بالعربية الفصحى، ولكنه كان حريصا
دائما في حديثه ألا يكون بالفصحى، بل بالعامية المصرية فقط، ليس في سياق الموعظة
الدينية في الكنيسة، ولكن حتى في سياق الحديث النخبوي، في المؤتمرات وغيرها. وهو
ما يقوم به أيضا البابا تواضروس، وبقية الآباء والكهنة في حديثهم العربي، فهو فقط
بالعامية المصرية، سواء كان في مجال نخبوي أو عامة.
بقي أن نقول هنا كلمة مهمة: إنه إذا كان
المسيحيون العرب قد أولوا التراث
العربي اهتماما، وعناية وتحقيقا، فإن هناك جهودا مهمة للمسلمين العرب في الاهتمام
بالتراث المسيحي واليهودي، وقاموا بنشره وتحقيقه، وهو ما يحتاج لمقال منفصل.
Essamt74@hotmail.com