الكتاب: رحلة مع الحياة
المؤلف: د. محمد المختار ولد باه
الناشر: المركز الثقافي للكتاب الدار
البيضاء
الطبعة الأولى: 2022
عدد الصفحات: 398
يشكل كتاب "رحلة مع الحياة"
نموذجا من السير الذاتية الغنية التي تجمع بين الحياة الثقافية والأدبية
والعلمية والسياسية، وتضم بين دفتيها معطيات سوسيولوجية مهمة، وحقائق تاريخية
نادرة، ومواقف
سياسية طريفة تروى لأول مرة، وتفصيل لملابسات توترات في العلاقات
بين المغرب وموريتانيا نشأت بناء على فعل الاستعمار، وتورطت النخب الذيلية لفرنسا
في إعطائها أبعادا خطيرة، لعبت في الواقع دورا في تأجيل استقلال
موريتانيا وإفساد
علاقتها بالمغرب في فترة كان البلدان يحتاجان إلى توثيق الصلات وخدمة الأهداف
المشتركة ضد الاستعمار.
حاولت هذه
السيرة أن توثق بشكل مفصل لجوانب
مهمة من حياة الدكتور محمد المختار ولد باه وأهم المحطات التي مر منها، فحرصت على
الجمع بين مسار حياته، العلمية والسياسية، وبين مخاضات ومنعطفات كان لها تأثير قوي
في حياته وأفكاره ومواقفه.
في البدء كانت الكلمة للتكوين الديني
التقليدي
لا تختلف حياة المختار ولد باه عن حياة أغلب
مثقفي العالم العربي من حيث الانتساب إلى البداوة والوسط القبلي، لكن الزائد في
أصل الرجل، هو الطابع المتنقل للحي الذي كان يسكن به، بحكم أنه كان عبارة عن خيام
تنصب قرب مدينة بوتلميت وترفع وتقام في مكان آخر كلما دعت الضرورة لذلك.
لم تؤثر هذه الطبيعة المتنقلة على تعليم
الرجل، فقد خضع لنمط التعليم الديني التقليدي. ومن المثير للانتباه أن الرجل قرأ
القرآن هو ونفر من الصبية على يد امرأة (أم المؤمنين بنت العبدي).
يسجل المؤلف ملاحظات سوسيولوجية دقيقة عن
طبيعة المجتمع القبلي الذي عاش فيه، لا سيما الفرز الذي كان بين قبائل الزوايا
الذين كانوا معروفين بحفظ العلم وكان منهم أئمة المساجد، وقبائل العرب الذين كان
يتقلدون مناصب في الجيش والحكم والإدارة، كما سجل ملاحظاته على الاستعمار الفرنسي
(النصارى) وأسلوبه في التحكم في مقدرات الشعب وخيراته.
لم يكن التعليم الديني التقليدي الذي خضع
إليه ولد باه كافيا، فسرعان ما التفت إلى نقص في تكوينه، فحاول استكماله بالانعطاف
نحو العلوم اللغوية والنحوية، فالتحق بـ"المحظرة" بعد أن اختصت المرحلة
الأولى بتوسيع مداركه في حفظ القرآن والأشعار والمقامات العربية، وتدرج في تحصيل
علوم النحو والفقه، فسجلت سيرته صورا من استشكاله لمسائل النحو في ألفية مالك
ومسائل مختصر خليل، ويذكر في هذه المرحلة أنه تتلمذ على العلامة الشيخ الأمين
الشنقيطي، وأغرم بدراسة (أصول الدين) ووجد
هذا العلم متناغما مع فكره، بحكم تفتح هذا
العلم على التساؤل والتدبر وربط الأسباب بالنتائج، وتجاوز مرحلة الحفظ والتلقين.
تكتمل هذه المحطة "المحظرية" في
حياة المختار ولد باه، وتبدأ المحطة الفارقة، التي تشابكت فيها رغبة العائلة التي
تريد منه تتميم مساره بالانخراط في الوظائف الدينية، وما تسمح به في ذلك الوسط
القبلي من خدمة العائلة وحل مشاكلها الاجتماعية، وبين رغبته الذاتية في التحرر من القيود الاجتماعية
والقبلية والسفر خارج الحدود للبحث عن آفاق جديدة للتحصيل العلمي.
في المفارقات
لم تكن لحظة الدخول لعالم الوظيفة شيئا
مثيرا في حياة الرجل، فقد كان الالتحاق بالدرجات الدنيا من الوظيفة (مجرد مقرئ)
مدخلا للتعرف على مواهبه وطاقاته، إذ تدرج به هذا الوظيف إلى درجة ثانية ساعدته
على استكمال دراسته، إذ ساعده اللقاء بمفتش التعليم الجديد المسيو كونديت في
تعيينه مراقبا في مدينة بوتمليت حيث يوجد مركز تكوين المعملين، فاستفاد في هذه
المرحلة من استكمال دراسته، وتقدم لاجتياز امتحان الشهادة الابتدائية رغم رفض مدير
المركز بسبب عدم أهليته الدراسية لهذا الامتحان، فصمم على ذلك ونجح.
وبسبب هذه الشهادة ستنقلب الحياة المهنية
للرجل، وسيصبح أستاذا للغة الفرنسية، مع أن خلفيته الثقافية مرتبطة باللغة العربية
وشعرها وآدابها وعلوم الشريعة.
حاولت هذه السيرة أن توثق بشكل مفصل لجوانب مهمة من حياة الدكتور محمد المختار ولد باه وأهم المحطات التي مر منها، فحرصت على الجمع بين مسار حياته، العلمية والسياسية، وبين مخاضات ومنعطفات كان لها تأثير قوي في حياته وأفكاره ومواقفه.
لم تنته المفارقة عند هذا الحد، بل تعززت
بعد قرار الرجل التوجه لأداء فريضة الحج سنة 1953، إذ عرض له طارئ سار، في عودته،
بعد أن توقفت الباخرة في وهران، ووقع عليه الاختيار من قبل مندوب الحكومة للتوجه
مع مجموعة من رفاقه إلى باريس للقاء وزير المستعمرات المسيو لوي جاكينو، فكان
المندوب يريد تقديم مكافأة للرجل على ما قدمه من خدمات جليلة للحجاج. وقد كان
رفيقه في هذه الرحلة مبارك البكاي، الذي عين رئيسا لأول حكومة مغربية بعد أزيد من
عشر سنوات. وقد كان من ثمرات هذه الزيارة، أن التقى ولد باه بالمندوب السامي
الفرنسي بيير مسمير عند عودته من الحج، إذ طلب منه تحويله إلى سانلوي عاصمة
موريتانيا والسينغال وقتها لمتابعة الدراسة في الثانوية، فتم قبول الطلب، فقضى
الرجل سنتين في هذه المدينة مترددا بين التدريس وبين إعداد نفسه لاجتياز امتحان
الباكلوريا، إذ توفق في الأخير في الحصول على هذه الشهادة واجتياز عقبة التعليم
الثانوي، وتحقيق الحلم الذي راوده منذ سنوات وعجز عن تحقيقه بسبب إكراهات العمل.
وقد كانت هذه الفترة بالنسبة إليه فترة خصبة
بسبب الفرص التي أتاحتها النوادي الأندرية في هذه المدينة، إذ وفرت له فرصة اللقاء
ببعض الشخصيات الأدبية والعلمية كأحمدو بن محمد باب بن أحمد بورة والملك
همامو المختار ولد الميداح.
يستكمل ولد باه ذكر محطات حياته، ويعرض لحدث
مهم كان له أثر كبير على الحياة الثقافية في مدينته بوتليمت، إذ تم تعيينه مسؤولا
عن تأسيس المعهد الإسلامي بهذه المدينة، وذلك بطلب من الشيخ عبد الله بن الشيخ
سيديا، فترك بصمة مهمة على هذا المعهد، إذ قام بوضع البرامج وفقا لمقررات محظرية
متطورة ومنظمة، محاولا إحداث التكيف بين المحظريات وبين مناهج التعليم الموريتاني
العصري.
ويذكر ضمن هذه المحطة لقاءه بالطالب
السينغالي عبدو ضيوف الذي صار بعد ذلك رئيسا للسنغال، وكيف اجتمعا معا على مقاعد
الدراسة، وأيضا في نفس غرفة المستشفى بعدما أصيبا بالملاريا، وأن عبدو ضيوف كاد
أن يتخلى عن الامتحان بسبب المرض لولا تشجيع ولد باه له وتنبيهه له بضرورة عدم
تضييع الفرصة.
في الميولات السياسية
ومن الأحداث المثيرة التي ذكرها ولد باه في
هذه المرحلة أيضا، والتي تدل على ميوله السياسية، وقوفه في حقل السياسة مناصرا
لابن قبيلته ورمزها السياسي وقائد تيار الكفاح ضد المستعمر الزعيم أحمدو ولد حرمه،
وذكر في سيرته أنه كان من أشد المستنكرين لما قام به الاستعمار الفرنسي بالمغرب من
إبعاد الملك محمد الخامس.
ومما سجله الرجل في سيرته ما رآه في مناهج
التربية والتعليم من تكريس القيم الفرنسية والإعلاء من الارتباط بها والتبعية
لنموذجها وتبخيس القيم المخالفة للنموذج الفرنسي، حتى صار الجميع بسبب الحظوة التي
يتمتع بها خريجو المناهج الفرنسية، يزدرون التعليم الديني واللغة العربية، وسجل عظيم تأثره بهذه التمثلات
السلبية، وكيف أنشأت في نفسه شعورا بالظلم والامتهان والتطلع إلى العيش في الحرية،
إذ لم يكن يرى طريقا لتحقيق ذلك إلا بالهجرة إلى الحجاز والمقام في جوار الحرمين، وذلك بسبب خفوت فكرة
الجهاد في نفوس المجتمع وشعور الناس بسيطرة فرنسا واستحالة رفع هيمنتها على التراب
الموريتاني، وأن ما غير رأيه، وعزز الأمل بإمكان التحرر من المستعمر هو الثورة
الجزائرية وانتصار المقاومة المسلحة بالمغرب برجوع الملك محمد الخامس إلى عرشه
واستقلال تونس وانهزام الجيش الفرنسي في الهند الصينية، هذا فضلا عن العدوان
الثلاثي الذي أجج غضب الشعوب العربية في شمال إفريقيا على فرنسا.
مما سجله الرجل في سيرته ما رآه في مناهج التربية والتعليم من تكريس القيم الفرنسية والإعلاء من الارتباط بها والتبعية لنموذجها وتبخيس القيم المخالفة للنموذج الفرنسي، حتى صار الجميع بسبب الحظوة التي يتمتع بها خريجو المناهج الفرنسية، يزدرون التعليم الديني واللغة العربية
على أن التحول الكبير الذي عاشه الرجل، هو
دخوله للحكومة سنة 1957، إذ ربط الكاتب بينه وبين اكتمال نضجه في السياسة، وسجل
بأن العلاقة التي كانت تربطه بالقيادات التي شكلت هذه الحكومة وبشكل خاص (المختار
ولد داده، ومحمد عبد الله ولد الحسن، والدي ولد سيدي بابا ومحمد فال ولج عمير) هي
الصداقة قبل أن تجمعهم السياسة، ولاحظ في سيرته شعور قبيلته وعائلته بهذا التكريم،
وكيف استقبل الحي خبر تعيينه في الحكومة بالدهشة، إذ لم يكونوا يتصورون أن بدويا
يمكن أن يحمل اسم وزير.
ندم على دخول حكومة في ظل الاستعمار
تحمل المختار ولد باه منصب وزير الصحة، مع
أن خلفيته المهنية والعلمية لا علاقة لها بهذا القطاع سوى ما كان من علاقة أسرته
بالطب، خصوصا والده الذي كان يجمع بين العلم الشرعي وبين ممارسة الطب التقليدي
والتبرز فيه إذ استطاع أن يصنع لقاحا ضد الجذري سنة 1893، وأيضا إخوته، إذ شكل ولد
باه، الاستثناء الوحيد في هذه العائلة.
وسجل المختار ولد باه في سيرته أن مناصب
الحكومة لم تكن تخضع لأي معايير موضوعية أو مقاييس تخصصية، وأنه مع ذلك بذل جهودا
كبيرة لاستيعاب مشاكل القطاع وسبل إصلاحه والنهوض بأوضاعه، وقام بتعيين إدارة
مستقلة للصحة وزيادة عدد الأطباء وقام ببناء مستوصف، لينتقل بعد أشهر من ممارسة
مهامه في وزارة الصحة إلى وزارة التعليم وكان الميدان الذي يعرفه ويحمل معه خلفيات
كافية تؤهله للقيام بالإصلاحات الضرورية فيه.
المثير في هذه التجربة هو القناعة التي
استقرت لدى المختار ولد باه والدي سيدي باب والأمير محمد فال ولد عمير بضرورة
مغادرة الحكومة في ظل الاستعمار وضرورة التنسيق مع المعارضة لإمضاء هذا القرار الذي
لم يكن المختار ولد داده يوافقه. يروي المختار ولد باه جانبا من اختلاف بين
الثلاثة حول تصريف القرار وسيناريوهات ما بعد الانسحاب، وكيف فضل الاثنان اللجوء
إلى الخارج لمواجهة الاستعمار من هناك، بينما فضل المختار ولد باه البقاء في الداخل.
والمثير أكثر في الحدث، هو استثمار الرجلين
سفرهما الرسمي باسم الحكومة إلى باريس وتنفيذهما للقرار واختفائهما، وكيف اتخذت
الحكومة قرارا ببعث وفد رسمي للبحث عنهما كان من بين أعضائه المختار ولد باه، إذ
تم لقاء الوزير الفرنسي المكلف بأقاليم ما وراء البحار، فأخبر الوفد بأن الأخوين
المنسحبين من الحكومة فرا إلى جنيف، وسيذهبان بعد ذلك إلى القاهرة، دون أن يعرف
دواعي ذلك. فكان الجواب من قبل المختار ولد باه رغم أنه لم يكن رئيس الوفد بأن
السبب يعود إلى عدم الرضا على الوضع السياسي بموريتانيا في ظل الاستعمار، وأن
القانون الإطار الذي سنه الاستعمار كوجه من وجوه الإصلاح لم يوفر أي إمكانات أو
سلطة للشعب الموريتاني فضلا عن كونه رسم مستقبلا مجهولا وغامضا لهذا البلد.
ويستمر عنصر المفاجأة والإثارة في حياة
المختار ولد باه، بعد أن اتخذ القرار بالالتحاق بالأخوين بالقاهرة، ورسم خطة لذلك،
عبر التوجه من باريس إلى بروكسيل ثم بعدها إلى القاهرة، وهي المهمة التي لم تكن
سهلة، بعد أن تم اعتراض الوفد من قبل البوليس الفرنسي والبلجيكي فتم التعلل برغبة
الوفد بقضاء عطلة أسبوع ببروكسيل، فتم تخطي الحاجز الأمني، وتم اللجوء إلى السفارة
المصرية في بروكسيل لترتيب السفر للقاهرة والالتحاق بالأمير فال ولد عمير والدي
سيدي بابا.
وتروي السيرة أن الوفد مكث نحو أسبوعين
بالقاهرة، وأن القرار اتخذ بترتيب السفر بتنسيق مع سفير المغرب بالقاهرة الأستاذ
عبد الخالق الطريس، الذي وعدهم بالمقام الآمن بالمغرب، وأنه بلدهم الثاني وأن
المغرب لا يشعر باستقلاله بشكل كامل ما لم تتحرر موريتانيا من الاستعمار الفرنسي،
وأنه على كامل الاستعداد لدعم المناضلين الموريتانيين للتعجيل بحرية موريتانيا.