كتب

حتى لا تبقى علوم القرآن بمعزل عن الوسائط التقنيّة الحديثة

كتاب يعرض الجمع بين علوم القرآن من ناحية والفنّ السينمائي متحدّيا ما كرّسته ثقافتنا من تباعد موهوم بينهما
الكتاب: "القرآن الكريم وعلومه في الفيلم الوثائقي"
الكاتب: كتاب جماعي من تنسيق د عبد العزيز الضامر
الناشر: مركز تفسير الدّراسات القرآنية ط 1: الرياض، 2015

أثر "القرآن وعلومه في الفيلم الوثائقي" ـ كتاب صادر عن مركز تفسير الدّراسات القرآنية شكّلته  مقالات لنحبة من الباحثين والنّقاد تولى تنسيق مادته الدّكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن الضامر وشارك في كتابته بأكثر من مقالة. يكشف صدوره عن شجاعة علميّة تحلّى بها منجزوه وناشروه على حدّ سواء. ومأتاها محاولته الجمع بين علوم القرآن من ناحية والفنّ السينمائي من ناحية ثانية متحدّيا ما كرّسته ثقافتنا من تباعد موهوم بينهما. فجعل غايته تذليل الوسيط التّقنيّ الحديث وتحويله من النّزعة الفنيّة في عالم التّخييل أو التّوثيق إلى المنحى العلميّ خدمة للنّص الكريم وعلومه وقرّائه.

1
يستهل الباحث عبد العزيز الضامر الأثر بمدخل أريد له أن يكون تأطيرا ينزّل المبحث في سياقه المعرفي والحضاري فيلفت الانتباه إلى أهمية تدوين مسائل علوم القرآن وثائقيّا وجدواه ويحدّد أطره من ضبط للمصطلحات والمفاهيم الحاضنة ذات الصّلة بالفيلم الوثائقي، بالعودة إلى المؤسسات والمعاجم المختصّة والوقوف عند شروط التوثيق.

وفضلا عن التمهيد ضمّ الأثر ثلاثة أقسام: أوّلها جاء بعنوان [مقدمات] نزعت مقالته إلى عرض المسألة نظريّا وإلى مقاربة توثيق علوم القرآن ضمن أبعادها الفكرية الحضاريّة وثانيها أُفرد بالعنوان [قراءات] بحثت أوراقه في نماذج من أفلام القرآن وعلومه وثالثها وُسم بكونه جملة من [الأفكار والمشاريع] فخاضت مباحثه في  آفاق محتملة يمكن أن تلتقي فيها علوم القرآن بالفيلم الوثائقي لقاء مخصبا.

2
عمل د. حبيب النّاصري  في الـ"مقدمات " وضمن مقالته [الفيلم الوثائقي في رحاب القرآن الكريم نحو رؤية جمالية إنسانيّة] على إبراز أهميّة الخطاب البصري على أيامنا وما قُّدر له من أدوار حاسمة في الغرب من جهة، وما يجده بالمقابل من إهمال في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة وتغاض عن أهميته وهو الخطاب المولّد لاحتمالات المعنى المختلفة، المحدّد لتمثّلاتنا للكون ولمنزلتنا فيه، راصدا "تخلّف استعمال هذه الثقافة كوسائل [كذا] منهجيّة تعليميّة تعلّميّة" والحال أنّنا في أمس الحاجة إلى هذا الوسيط حتّى نقاوم ما تكرّسه سينما هوليود من صورة نمطيّة للمسلم تجعله ذلك الوافد من وراء الصحراء، الغريب عن كل مظاهر المدنية والحضارة والتّطور وحتى نرسّخ الدّور النبيل للفنون على اختلافها المتمثل في "جعل العالم يتقاسم اللّحظات ذات العمق الوجداني الإنساني".

وانتهى إلى أنّ الفيلم الوثائقي الذي يوظّف عامة ضمن استراتيجيات إعلامية بحثيّة علميّة في آن يمثّل آليّة مثاليّة للتّعريف بمكوّنات الهويّة الإسلاميّة. أما د. مالك بن ابراهيم الأحمد فاهتمّ في مقالته [البرامج الوثائقية والتوظيف الأمثل خدمة للقرآن] بأهمية برامج التّوثيق على أيامنا فقدّر أنّ من أخطر أدوار أفلامها فرضَ وجهات نظر أصحابها وتكريسها على أنها معطى ثابت. وأبرز أنّ انفتاح علوم القرآن  على هذا الفنّ أمر عظيم الفائدة بيّن الجدوى يُسهم بجلاء في نشر القرآن وبثّ قيمه بين الأنام. وبالمقابل اشترط تحديد ضوابط صارمة لتوظيف فنّ التّوثيق خدمة للقرآن وعلومه.

3
ولجدة المبحث حاول حسن مجتهد تأصيل عمل التّوثيق في مقالته [وثائقيات القرآن الكريم: مفارقة الرؤية وجماليات المكان] فعاد إلى أهميّة التّدوين في الثّقافة الإسلامية وما نشأ عنها من العلوم. ودعا ـ بناءً على ذلك ـ إلى استغلال التّقنيات الجديدة في مجال الصورة وتسخيرها لخدمة ما اشتغل عليه القدماء من بحث في علوم القرآن. مقدّرا أن التّوثيق يشكّل  هويّة السّينما الفاضلة، ملاحظا أنّ تناول الأفلام للعلوم القرآنية لا يخلو من الفوضى والتّداخل والشّطط في التّفسير والتّأويل ومن الخلط على مستوى التّنميط بين ربورتاج ودراسة وثائقية وفيلم تعليمي بيداغوجي منبّها إلى ضرورة اعتماد هذه البرامج لغة الحقيقة لا لغة الحلم التي تميل إليها السّينما التخييلية. ذلك أن الحسّ الجمالي ـ في تقديره ـ  يختلف في هذا المستوى عن الحسّ الجمالي الأدبي بالنّظر إلى طبيعة المادة المدروسة.

4
في القسم المعنون بــ"قراءات" انتقل الأثر من الدراسة النظريّة المتعالية إلى البحث في المنجز تحليلا وتفكيكا وتأويلا. فرصد سمير الضّامر ضمن [وثائقيات القرآن الكريم: مفارقة الرؤية وجماليات المكان] اختلاف تناول القرآن وثائقيا في الآثار السّينمائيّة الإسلامية عن نظائرها العالمية من جهة أسلوب الطّرح فنيّا وعمقه فكريّا. ووجد الأفلام الغربيّة  أكثر جرأة في طرح الأسئلة وأكثر عمقا في المعالجة فيما بدا له الفيلم العربي محافظا تعوزه الشّجاعة على الغوص في بعض القضايا أميل إلى الاستعاضة عن فقر تناوله للمواضيع بالمؤثرات البصرية الشّكلية.

ويردّ سمير الضامر هذه المحافظة إلى كمّ المحاذير التي يواجهها الوثائقي العربي في رحلة تعميق أسئلته وإلى هامش حريته الضيّق. وقدّر أنّ من أبرز العوائق التي تعترضه تلك السّلطة الضّاغطة التي تمتلكها بعض المؤسسات الّدينيّة والإعلامية ومراجع الفتوى. وللاستدلال على صواب تقديره يتناول نماذج من هذه الأفلام العالمية منها (the qoran) الذي يطرح معضلة انقسام المسلمين إلى مذاهب متناحرة والحال أنهم يصدرون عن كتاب مقدّس واحد و(the qoran and klashnkof) الذي أبرز دور المخابرات الغربية في استغلال مفهوم الجهاد واستغلاله لتجييش المسلمين لمحاربة الاتحاد السوفياتي في إفغانستان ودور فرنسا في الإطاحة بشاه إيران ووصول الخميني إلى امتلاك زمام السّلطة فيها وعمل على فضح "استخدام السّياسة لذهنيات الشعوب العربية الإسلامية في تمرير هذا النوع من الصّراع باسم الجهاد المقدّس"  و(qoran by heart)  الفيلم الذي يبرز جماليات الفضاء الشعبي البسيط حيث يعمل النشأ على حفظ القرآن عن ظهر قلب ويقدّم الكتاب الكريم باعتباره باعثا على الإيمان والرضا والاطمئنان والانسجام الرّوحي.

5
ولئن أعاقت المعرفة بخصائص الفنّ السّينمائي د. كريمة الليحياوي في مقالتها "صورة القرآن الكريم في الفيلم الوثائقي "بين عالمين" فانصرفت  تعرض مضمون فيلم (Between two worlds)، ومداره على اعتناق الدّيبلوماسي السّويدي (Knut Berstom) للإسلام لما وجد في القرآن الكريم من أجوية مقنعة لأسئلة شغلته، فإنّ خديحة بن بريك انطلقت من البحث في خصوصيات الإنشاء في [جمع وكتابة القرآن الكريم] من حبك وبناء ومونتاج وتقنيات صوتية لتقف عند مدى خدمتها لتعميق المعنى وتقريبه من المتقبّل الأثر ضمن مقالتها [قراءة تحليلية في فيلم "القرآن الكريم جمعا وكتابة]. أما أ. أحمد الصمدي فيعرض ضمن مقالته [صورة القرآن الكريم فب الأفلام الوثائقية عن الفنانين المتحوّلين إلى الإسلام: فيلم آيات فنية أنموذجا] قصة اعتناق الفنان التّشكيلي الإيطالي كرم سيباستيان كناريللا للإسلام بعد رحلة تأمل وجودي ويركّز على الصّورة الإيجابية التي يرسّخها الفيلم عن القرآن بما يرسم من صورة عن الإنسان والكون والغيب. فيبيّن أن الفيلم قدّم الكتاب الكريم وباعتباره في آن مصدر إلهام ودعوة إلى التعايش الإنساني. وينفرد برأي لا يمكن التّسليم به دون نقاش أو احتراز مداره على أنّ الوثائقي ـ لطبيعة العرض فيه ـ يخلق دلالات قليلا ما يرقى إليها المكتوب.

6
وانتهى هذا الأثر بالقسم "أفكار ومشاريع" ومداره على تيمات جديرة بأن تتّخذ منطلقا  لوثائقيات تبحث في علوم القرآن. فكتب د. أحمد أعراب [الحقائق الكونيّة في القرآن الكريم وخطورة الخطإ في ترجتمها: مشروع سلسلة أفلام وثائقية] وكتب  أ. خالد صالح مصطفى [السّينما الوثائقية في خدمة القرآن الكريم، البقعة المباركة نموذجا] وحبّر د. عمر راغب زيدان [أماكن النّزول القرآني، فكرة مشروع وثائقي] ودوّن أ. جلال عبد السميع[قصّة القرآن الكريم.. وثائقيا] ومع ذلك فقد مثّل التّفكير في ممكنات التّوثيق مشغلا لمقالات وردت في التمهيد أو القسمين السابقين شأن ما اقترح عبد العزيز الضامر وحبيب الناصري ومالك بن ابراهيم الأحمد.

7
"القرآن وعلومه في الفيلم الوثائقي" بالجملة كتاب شغوف أوّلا، يرصد اشتراك جملة من الأفلام في الاهتمام بالقرآن الكريم، استشرافيّ ثانيا، يتّجه إلى المستقبل فيبحث في إمكانية تشكّل تيمة جديدة في السّينما الوثائقية، تتجاوز قيمته ما وسمناه بالشّجاعة أو الشّغف إلى لفت الأنظار إلى برزخ لم نكن ننتبه إليه كفاية ممتدٍ لا يمكن أن تضبط حدوده ولا أنماطه بيسر. فتتوزّع بين الدّراسة الوثائقية  والفيلم الوثائقي التّخييلي والفيلم العلمي بمستوياته المختلفة: فيلم البحث العلمي (Le film de recherche scientifique) والفيلم البيداغوجي (Le film pédagogique) وفيلم التّبسيط العلمي (Le film de vulgarisation). ولهذا الكتاب فضل ثان فقد مثّل خزّانا للمواضيع. فاقترحت مشاريع أفلام تعرّف بالقرآن أو تصله بحياة النّاس في الدنّيا حتى تخوض في الجانب الاجتماعي من منظور قرآني أو تعود إلى الماضي  فيتعرّف بالأقوام السابقة وتعرض قصص الأنبياء من المنظور نفسه. واقترحت أخرى تصل علوم القرآن بالآخرة حتى يكون على صلة بالمفاهيم المؤطرة للمعاد كمفهوم الموت والجنّة.

رصد سمير الضّامر ضمن [وثائقيات القرآن الكريم: مفارقة الرؤية وجماليات المكان] اختلاف تناول القرآن وثائقيا في الآثار السّينمائيّة الإسلامية عن نظائرها العالمية من جهة أسلوب الطّرح فنيّا وعمقه فكريّا. ووجد الأفلام الغربيّة أكثر جرأة في طرح الأسئلة وأكثر عمقا في المعالجة فيما بدا له الفيلم العربي محافظا تعوزه الشّجاعة على الغوص في بعض القضايا أميل إلى الاستعاضة عن فقر تناوله للمواضيع بالمؤثرات البصرية الشّكلية.
ولعلّ هذا أن يعكس وعي مؤلفيه بوقوفهم على عتبات مشغل سينمائي جديد واعد. ورغم ما سجّلنا في بعض مقالاته من مغالاة في الدّعوة إلى الحذر عند مقاربة المسائل القرآنيّة وثائقيّا وإلى الحيطة والرصانة ومن ميل إلى الضّوابط والقيود حتى أنها انصرفت إلى تسييج اتجاه سينمائي لم ينشأ بعد، يظلّ الأثر جريئا يحاور فنّا على قدر من الخطورة فيعمل على قدح الفكر والإبداع معا ويوجّههما إلى الدّراسات المختصّة التي تجمع في آن بين الدّراية  بعلوم القرآن والمعرفة بتقنيات السّينما الوثائقية وهو مبحث على قدر من الّدقة يستجيب إلى نزعة المباحث الإنسانيّة على أيّامنا إلى تجاوز الاختصاص الضّيق المعزول عن تفاعلات العلوم من حوله.

8
يظلّ الفيلم الوثائقي وسيطا تقنيّا طيّعا ينصاع إلى كل حضور مفكّر خلف الكاميرا. فينتج صورا ذات قدرات خارقة ولكنها عمياء في الآن ذاته مستطيعة بذات المخرج. فمنها تستمدّ هذه الصّور عمقها وطرافتها، وعن تفكيره تتولّد مواقفها وتتحدّد مقارباتها. ومن هنا كانت الحاجة إلى الإنشاء فيه وربطه بالقرآن وعلومه وطنيّةً وقوميّة ودينيّة.