رغم الانتقادات التي صدرت عن جهات مختلفة سياسية ومدنية، رفض الرئيس أن يتراجع أو يعتذر أو يعدل من أسلوبه القاطع والحاد. لهذا السبب وجد نفسه في اشتباك متجدد مع المنظمات الحقوقية داخل تونس وعلى الصعيد الدولي، التي أصبحت لا تتردد في وصفه بصفات كانت تستعملها من قبل ضد الرئيس السابق زين العابدين بن عليلقد أدت به الخلافات السياسية إلى الغضب الشديد الذي جعله يلجأ إلى العصا ليهوي بها على خصومه. قام بإحالة العشرات من المعارضين والنشطاء، شملت أيضا صحافيين وحقوقيين على القضاء بتهم متعددة ذات طابع سياسي، كما أصدر مراسيم تكتسب خطورة عالية مثل المرسوم 54 الذي سمم المناخ العام وأعاد الشعور بالخوف في صفوف كل من يفكر ويتوجه بالنقد إلى رئيس الدولة وأعضاء الحكومة وأصحاب المسؤوليات العليا.
هكذا وجد الرئيس سعيد نفسه في مأزق يصعب تجاوزه بدون أن يدفع ثمنا قاسيا على الصعيدين السياسي والاجتماعي. لا أحد في تونس يمكنه أن يقدم حلولا ترضي جميع الأطراف في السياق الراهن، لكن بما أنه اختار أن يحكم بمفرده، ورفض إشراك الآخرين في إدارة الشأن العام، فإنه سيتحمل وحده بالضرورة مسؤولية هذه المرحلة الصعبةلقد وقع قيس سعيد في ازدواجية حادة جعلته كمن يتراجع إلى الخلف وهو يظن بكونه يتقدم نحو الأمام. فالحملة التي قام بها ضد مؤسسات التمويل العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، انتهت به وبالبلاد إلى وضع كارثي غير مسبوق. فهو مرتاب في نواياها، معتمد في ذلك على أدبيات معروفة مناهضة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية المتوحشة. وفي ذلك قدر من الصحة والنفس الثوري، لكنه لا يملك الوسائل التي تمكنه من الدفاع عن اختياراته وبالأخص تنفيذها على أرض الواقع. فكانت النتيجة الوقوع في العجز والاضطرار إلى أن يتراجع عمليا دون الاعتراف أو الإعلان عن ذلك، ويحاول تدارك مواقفه السابقة من خلال إرسال الوفود الحكومية المتتالية من أجل إقناع صندوق النقد الدولي بمراعاة الأخطار التي تهدد الشعب التونسي، وذلك بتقديم قرض عاجل مقابل تنفيذ إصلاحات متعارضة مع مواقف الرئيس. رغم ذلك يعلن من جديد عن رفضه لتلك الإصلاحات خوفا من أن تؤثر على شعبيته وعلى رصيده السياسي، وهو ما زاد في تعميق درجات الإرباك واللخبطة غير المسبوقة.
هذه مصر التي ساندت الرئيس سعيد بقوة في ما اعتبره مسارا تصحيحيا، وأعانته بنصائحها المتعددة حتى يتمكن من أن يُحدث تغييرا هاما في السياسات والاختيارات، ها هي تتصرف بطريقة مختلفة عن أسلوب تونس في محاولة الخروج من المأزقوأمامه مثال واضح وهو ما يحصل في مصر التي تسعى حاليا -مثل تونس- للحصول على قرض كبير من صندوق النقد، وتتعرض إلى ضغوط شديد جعل نظامها يقبل اضطرارا بأن يناقش في وثيقة رسمية "سياسة ملكية الدولة" ويلتزم فيها بالتخلي عن 79 من القطاعات الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في 45 قطاعا آخر، بما في ذلك العديد من "الشركات العسكرية المصرية". أي أن الدولة قبلت لأول مرة أن تناقش مسألة الحد من دور الجيش في الاقتصاد، وهي من القضايا شديدة الحساسية في بلد يلعب فيه العسكر دورا محوريا منذ 1952.
متفقون على ارحل.. مختلفون على ما بعده
تقرير للصندوق: خدمة الدين الخارجي لمصر لـ3 سنوات مقبلة تعادل قيمته حاليا