تقتضي الواقعية ألا نبالغ في تصوير التناقضات الداخلية
الإسرائيلية، التي احتدمت بعد تشكيل حكومة اليمين العنصري المتطرف، والاحتجاجات الواسعة التي انتقلت للشارع كما في مظاهرة تل أبيب، التي شارك فيها نحو مئة ألف معارض لحكومة التطرف اليميني، والصدامات التي بدأت تظهر للعلن؛ بسبب توجهات هذه الحكومة لتقليص صلاحيات السلطة القضائية والمحكمة العليا على وجه
الخصوص، أو بسبب تعارض الصلاحيات بشأن المسؤولية عن الاستيطان. وفي نفس الوقت
علينا الحذر من الوقوع في شَرَك التبسيط المُخِلّ الذي لا يرى أي فرق بين حزب
صهيوني وآخر، اعتمادا على المعادلة التي تقول؛ إنهم كلهم محتلون وشركاء في الجريمة،
وأن خلافاتهم لا تعدو كونها تقاسما للأدوار. أما الأهم من طريقة تقييمنا وتصنيفنا
للقوى الإسرائيلية وفهم خلافاتها، فهو الحذر من الرهان على هذه الخلافات وكأنها
العامل الرئيسي في رسم مستقبل الصراع بديلا عن فعلنا نحن الفلسطينيين، وخصوصا في
ظل الأزمات الداخلية التي ما زلنا نتخبط فيها، وتحدّ من قدرتنا على الفعل الموحد
الكفيل بتحسين قدرتنا على التصدي للاحتلال.
لقد خبر الشعب الفلسطيني بنفسه ومن
خلال دماء بناته وأبنائه، ذلك التطابق بين برامج الأحزاب الإسرائيلية كافة في
تعاملها مع القضية الفلسطينية والاحتلال، مثلما وقع خلال ولاية حكومة بينيت- لابيد
السابقة، التي كانت أكثر الحكومات إجراما وتوحشا منذ العام 2005 على الرغم من قصر
مدتها، حيث تحولت عمليات الإعدام الميداني إلى ممارسة يومية، وبات كل فلسطيني/ة،
مقاتلا أو تلميذا أو مزارعا أو طفلا أو عابر سبيل، معرضا للقتل في أي لحظة، وصار
كل جندي أو مستوطن مُخَوّلا بإصدار حكم الإعدام وتنفيذه لأي سبب يراه.
لا خلاف إذن بين القوى الصهيونية على
القضايا الجوهرية التي تخص
الاحتلال والموقف من الشعب الفلسطيني، فكلها تُجمع على
الخطوط العريضة لهذه السياسة التي لخصتها "صفقة القرن"، وأهمها رفض قيام
دولة فلسطينية مستقلة، وتهويد القدس، وتكريس الاستيطان، وضم أكبر مساحات ممكنة من
الأرض المحتلة وخاصة المناطق المصنفة (ج)، مع مواصلة سياسات الفصل والتمييز
العنصري، سواء تجاه الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967، أو تجاه المناطق
المحتلة عام 1948 بنزع الشرعية السياسية عن فلسطينيي الداخل، والعمل لمنعهم من
التعبير عن انتمائهم لشعبهم الفلسطيني، أو التضامن معه وتأييد نضاله. ربما توجد
فروق طفيفة بين الأحزاب الصهيونية ترتبط بالتفاصيل أو بطريقة تعبيرها عن مواقفها،
ومدى حرصها على مراعاة المجتمع الدولي والقوى الخارجية، لكنها في الجوهر تتفق على
سياسات الاحتلال التي سارت عليها جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة، بما فيها حكومات
حزب العمل.
الخلافات التي طفت على سطح المشهد
السياسي الإسرائيلي مؤخرا، تعود بشكل رئيسي للقضايا الداخلية، وتحديدا بطبيعة
النظام السياسي والعلاقة بين سلطاته المختلفة، التنفيذية والتشريعية والقضائية،
والعلاقة بين الدين والدولة، وحدود التفويض الذي منحه الناخب الإسرائيلي لممثليه
في الكنيست، ومن ثم للحكومة التي شكلتها الأغلبية، وهل يشمل هذا التفويض الحق في
تغيير مبادئ جوهرية سارت عليها الدولة منذ إنشائها، مثل العلاقات بين السلطات
الثلاث، وعدم تسييس الجيش والشرطة وإخضاعهما لأهواء الحزب الحاكم، أم إنه يجوز
للأغلبية، كما يجري الآن، إحداث التغييرات التي يرونها مناسبة، بما في ذلك نقض
قرارات المحكمة العليا؟
لا شك أن القوى السياسية التي تتباكى
على حال الديمقراطية الإسرائيلية الآن، هي التي أوصلت الأمور إلى هذه النقطة،
حالها كحال الشخص الذي تعهّد وحشا صغيرا بالتربية والرعاية، ولما كبر الوحش تغلبت
طباعه وغريزته، فانقلب على صاحبه. فحزب العمل بالتحديد هو الذي أنشأ الاستيطان
ورعاه وغذّاه ومدّه بكل أسباب القوة والدعم، ووفر للمستوطنين الغطاء القانوني
والسياسي لكي يتمادوا في عربدتهم وجرائمهم وهم واثقون أنهم في منأى عن أي عقاب أو
مساءلة.
لا يمكن استبعاد الأثر المتبادل بين
توجهات السياسة الداخلية والخلافات الفكرية، وسياسات الاحتلال، لكن هذا الأثر
يبقى ثانويا؛ فالاحتلال هو أعلى أشكال الفساد البشري. ومن يستهين بحياة الآخرين
لأنهم يختلفون معه في الدين أو العرق أو اللون، لن يتورع عن التعدي على حياة أبناء
جلدته وحقوقهم المدنية. ومن يزوّر التاريخ ويحمي المجرمين ويسرق الأراضي ويجيز
أبشع سياسات التمييز العنصري، لن يردعه ضميره عن مخالفة مبادئ العدالة والمعقولية.
المهم أن نفهم حدود هذه الخلافات وتأثيراتها على قضيتنا ومستقبلنا كفلسطينيين، وأن
المسؤولية الرئيسية في النضال لإنهاء الاحتلال تقع علينا نحن وليس على المجتمع
الدولي، تماما مثلما لا يمكن الرهان على التباينات الداخلية الإسرائيلية في إنجاز
تحولّات مهمة على الموقف الإسرائيلي من الاحتلال، وأية تحولات من هذا القبيل يمكن
أن تكون لاحقة ونتيجة للنضال الوطني الفلسطيني، وليس العكس.
والقول بأن هذه الخلافات هي مجرد مظاهر
خادعة وتقاسم للأدوار، هو محض تبسيط، ثمة خلافات جدية على طبيعة النظام السياسي
الإسرائيلي، الذي توفرت له في الماضي عدد من أركان القوة التي جعلته جذابا
للمهاجرين اليهود، وساهمت في تسويقه لدى أوساط واسعة في الغرب، ووفرت له عناصر
القوة والمنعة الداخلية. أبرز هذه الأركان هي الديمقراطية الداخلية وما يرتبط بها
من مبادئ الشفافية والمحاسبة والمساءلة، وفصل السلطات والتوازن في العلاقة بينها،
والحريات العامة وأهمها حرية التعبير والتظاهر وتشكيل الأحزاب والجمعيات، والحقوق
المدنية، بالإضافة إلى سيادة المنهج العلمي وتشجيع البحوث والاختراعات في ميادين
إدارة المجتمع والدولة وقطاع الأعمال، وتوفّر قيادات مؤسِّسة غَلّبت المصالح
العامة للمشروع الصهيوني على مصالحها الشخصية والذاتية، كل أركان القوة هذه، باتت
مهددة في ظل جموح
نتنياهو الشخصي لفرض سيطرته الفردية المطلقة على النظام، وائتلاف
الفاسدين والمتطرفين الذي أعاده إلى السلطة.
صحيفة القدس