سوريا مركز متقدم لصناعة
الكبتاغون حسب صحيفة الغارديان البريطانية، تنتجه على نطاق صناعي، وما تمت مصادرته من هذه التجارة المحرّمة دولياً يتراوح بين خمسة مليارات ونصف وستة مليارات دولار عام 2021، أما ما لم ينكشف فلا يقل عن 5 أضعاف ما صودر، وقد يبلغ عشرين ضعفاً، ما يتجاوز 100 مليار دولار إن صح هذا التقدير الأخير، ويقتصر على ما بين 25 و30 مليار دولار إن كان التقدير الأول هو الأصح.
الأمر لا يصدق في الحالين، لكن ما لا يصدق هو ما لا يكف عن الحدوث في «سوريا
الأسد» وهي بنية سياسية قائمة على تجاوز الحد في كل شيء. بالمقابل، حجم تجارة المخدرات، غير الشرعية بطبيعة الحال، بين المكسيك والولايات المتحدة يبلغ ما بين خمسة وسبع ونصف مليار دولار. أما صادرات سوريا الشرعية فلا تتجاوز 800 مليون دولار، بالكاد سُبع ما تم مصادرته من كبتاغون، وأقل من 3٪ من سعر السوق المحتمل لما لم يتم كشفه.
في هذا، الحكم الأسدي لا يقف جانباً ويسمح بإنتاج المخدرات وتصديرها، بل هو بالذات كارتل الصناعة والتصدير، حسب جويل ريبورن، المبعوث الأمريكي الخاص السابق إلى سوريا. ريبورن يقول، حسب ما نسبت إليه درشبيغل الألمانية في تقرير نشر قبل أسابيع، إنه يعتقد بأن نظام الأسد لن يبقى إذا خسر عائدات الكبتاغون.
والمشرف على نقل الكبتاغون ليس أحداً غير ماهر الأسد، شقيق بشار وقائد الفرقة الرابعة في الجيش الأسدي، ونائبه غسان بلال هو مسؤول العمليات والربط مع حزب الله، الشريك في هذه التجارة العابرة للحدود. وكان أيمن الجابر، صهر عائلة الأسد، المخطط الرئيس لتهريب مخدرات حزب الله إلى بعض الدول، انطلاقاً من ميناء اللاذقية الذي كان يديره بعد فواز الأسد، قبل أن يفقد حظوته.
أما السوق الداخلية لهذه الصناعة فتبدو محدودة، وإن تواترت معطيات عن تأثيرها المخرب، حتى في الجامعات. وتستخدم في هذه التجارة المسلحة مجموعات خاصة مثل عصابة الحوت من صيدنايا التي أعطاها الكارتل العائلي امتياز تهريب بعض «كوكايين الفقراء» هذا، لضمان ولاء صيدنايا ومسيحييها للنظام بعد الثورة، حسب تقرير درشبيغل نفسه. وهناك شبكة من أسر الجريمة وقادة ميليشيات وشخصيات سياسية، ممن لا يكن المساس بهم حسب تقرير الغارديان، يشكلون كارتلاً عابراً للحدود لتوزيع هذه الكميات الصناعية من الكبتاغون.
ومثلما أن بعض كبار عملاء الكارتل تحولوا لتوهم من أمراء حرب إلى أمراء مخدرات، فإن دولة المخدرات السورية استمرار لحرب الحكم الأسدي بوسائل أخرى، وليست نتاج استيلاء عصبة مخدرات على السلطة، أو شرائها للسياسيين، مثلما هو الحال في أمثلة أسبق من أمريكا اللاتينية. في سوريا، الدولة استولت على المخدرات وصارت تاجرة ومحتكرة لها.
امحاء الفرق بين السياسة والجريمة قديم في سوريا قدم حكم هذه العائلة. يروي راتب شعبو في كتابه «كأجراس بعيدة» أن حافظ الأسد كان يضحك حين تنقل له قصص ابن أخيه فواز، ومنها أنه يدخل مقصف الجامعة في اللاذقية، ويجبر جميع رواده على الاختباء تحت الطاولات إلى حين ينتهي هو من تناول قهوته، ويجبر شاباً برفقة فتاته على أن يقف على إحدى الطاولات ويهتف بأعلى صوته «أنا حمار». لم تكن هذه بالضبط استجابة «الأب القائد» على أي معارضين سياسيين لنظامه. في أحسن الأحوال يتعرضون للتعذيب ولسنوات طويلة في السجن، قبل أن يحاكموا بتهم النيل من هيبة الدولة وتوهين نفسية الأمة.
امحاء الفرق بين الاقتصاد والجريمة قديم بدوره إن استذكرنا تجارة رفعت الأسد بالآثار السورية منذ سبعينات القرن العشرين. بالمناسبة، عرضت أملاك رفعت، ومنها قصره في شارع فوش الراقي في باريس، في مزاد علني مؤخراً، تألف كاتالوغه من 260 صفحة، وتعرض فيه مقتنيات تتراوح بين سجاد أصفهاني من القرن السّادس عشر، ولوحات فنية فرنسية أصلية، وثريات فاخرة وخزانة مذهبة الأدراج، و500 من النفائس. وحسب مصطفى طلاس، فإن حافظ أعطى لأخيه رفعت مبلغ 500 مليون دولار استدانها من معمر القذافي عام 1984 «خلو منصب» بعد محاولة رفعت الاستيلاء على سلطة أخيه المريض وقتها.
على أن التحول إلى دولة مخدرات يبقى تطوراً مهماً من حيث أنه سعي لجني المال عبر الجريمة المنظمة وعلى نطاق إقليمي ودولي، دون وساوس بخصوص الكلفة البشرية لذلك. فالأمر حسب تحقيق حديث لسبكتاتور البريطانية يتعلق بنظام قتل عشرات الألوف [مئات الألوف في واقع الأمر] من شعبه كي يبقى في السلطة.
وراء إرادة العائلة الجانحة الاستقلال بمواردها عبر المخدرات تقدم دمار البنية الإنتاجية المهملة أصلاً والمتقادمة تكنولوجياً وتأهيلياً في سوريا، وتحلل البنية الاجتماعية ذاتها بفعل التكوين العصابي للحاكمين الفعليين والإفقار الشامل للمحكومين، وهما معاً في خلفية الثورة والحرب في سوريا. الواقع أن العائلة الأسدية ونظامها لم تكن قط قريبة من عالم العمل والإنتاج وقيمهما. استثمرت في قوة السلاح لجني الثروة، وتاريخها هو تاريخ الانتقال من الاستيلاء على السلطة إلى الاستيلاء على المجتمع والاقتصاد، وصولاً إلى تغيير السكان بعد الثورة.
منذ النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، وبترابط وثيق بين ريوع تحصلت من دول الخليج بعد الصدمة النفطية الأولى إثر حرب 1973 وبين التحول البريتوري للنظام، أخذت قيمة العمل بالانهيار كنصيب من الدخل الوطني، لتصل إلى نحو 39٪ منه عام 2010 (الرقم المقابل أكثر فوق 60٪ في البلدان الرأسمالية) ومعها انهار مجتمع العمل، أي من يعيشون من عملهم، لمصلحة قيم السلطة والمال والقرابة. الثورة السورية هي ثورة مجتمع العمل، أي من تدهورت مقدراتهم المالية، مع كونهم كذلك بلا سلطة ولا واسطة.
وبتكوينه كقوة مسلحة ذات تماسك خاص، لم يقم الحكم الأسدي يوماً على تحالف اجتماعي قد يدخل شيئاً من المرونة والتعدد في مراتب الحكم العليا، فيتيح للمحكومين هامش مناورة حيال المتحالفين أو زحزحة ولاءاتهم من أحد مكونات التحالف إلى مكونه الآخر. ما وجد هو إعطاء امتيازات لأفراد ومجموعات هنا وهناك، نظام تنفيعات، يسهل للبعض الحصول على منافع اقتصادية أو نفوذ اجتماعي، لكن من التساهل المفرط تسمية ذلك تحالفاً. الغلبة الأمنية العسكرية والدور الحاسم لأجهزة القوة لم تتح لأي مجموعة في سوريا، طبقية أو أهلية أو إيديولوجية، أن تلعب دوراً مستقلاً ولو في حده الأدنى. تحطيم المنظمات الاجتماعية والسياسية المستقلة ينبع من تكوين النظام المضاد للسياسة، وليس شيئاً حدث لحماية توازن تحالف حاكم.
وليس فقط لم تتغير هذه البنية حتى بعد حربين أهليتين، كبيرة وأكبر، بل تعزز فيهما وزن السلاح والقوة الخام، وتهرأت وتداعت أي ادعاءات وطنية وقومية عامة، كانت من أدوات النظام في العيش على حساب السوريين وابتزاز المحيط العربي. لم يعد يستطيع جني شيء مهم من السوريين الذين يعيش نحو 90٪ منهم تحت خط الفقر، واستهدافه لمجتمعات الخليج، السعودية بخاصة، بالكبتاغون والحشيش، هي بمثابة تعويض للريع النفطي، وفي الوقت نفسه حرباً ضد مجتمعات هذه البلدان من مافيا لا انتماء لها لغير سلطتها وثروتها. الكبتاغون ليس تجارة، إنه إعلان حرب؛ ولا تتكون حول هذه المورد طبقات وشرائح اجتماعية، بل عصابات ومافيات.
العلاقة عارضة بين كون الكبتاغون والحشيش مصدر 90٪ من العملات الأجنبية بيد الحكم الأسدي في سوريا حسب تحقيق صحيفة سبكتاتور وبين عيش 90٪ من السوريين تحت خط الفقر. لكن إذا نظرنا في أصول هذا الفقر وذلك الثراء، فإننا نجد لهما جذراً مشتركاً: التكوين المافيوي المسلح للطغمة الحاكمة.