تنشأ وسائل
الإعلام
لحاجة وتغلق بعد انتفاء هذه الحاجة، وكل وسيلة إعلامية هي بنتُ زمانها ومكانها،
وهي تهرم لكنها لا تموت إلا بقرار. وهكذا كان وضع إذاعة
البي بي سي العربية التي آثار
قرار إغلاقها شجونا عند كثيرين، لا سيما الأجيال التي لم تعرف مصدرا غيرها للخبر السياسي
الصحيح والتحليل الرصين. لقد نشأت البي بي سي العربية في زمن كانت فيه الإذاعة تتربع
على عرش وسائل الإعلام، وكان الوجود البريطاني السياسي والاقتصادي والثقافي في العالم
العربي حاضرا بقوة الاحتلال وتأثير المصالح المتبادلة.
لست ممن يقيّمون البي
بي سي العربية بمعايير الماضي أو الحاضر القريب، لكن أقيمها بمعايير ذاك الزمان
الذي نشأت فيه، إذ كانت استثمارا غربيا في منتج عربي ثقافي ناجح. وكان العالم
العربي حينذاك يموج بالحريات السياسية والصحفية، وكانت القامات الأدبية ملء السمع والبصر،
بعيدا عن المناكفات السياسية التي حرمتنا من أرشيف الإذاعة خاصة الإذاعة المصرية خلال
عقد الثلاثينيات والأربعينيات، فلم نسمع صوت الملك فاروق ومصطفى النحاس باشا وغيرهما.
كما لم نعرف نوعية البرامج التي كانت تبث في ذلك الحين، وأتوقع أن البي بي سي العربية
هي نسخة مصغرة وربما ضعيفة من الإذاعة العربية خاصة المصرية حينئذ.
ما بخلت به عليهم ولم يفطنوا إليه أو يطالبون به هو طبيعة إدارة الإذاعة ودور المستمعين من المحيط إلى الخليج في هذا الأمر، من ناحية التأثير وصناعة القرار الإداري والتحريري. ولهذا جاء قرار الإغلاق كصفعة على ملايين العرب الذين ارتبطوا بها وأصبحت بحق جزءا من تاريخ العالم العربي من دون أن يكون للعالم العربي أية كلمة أو رأي في قرار الإغلاق
ما حدث بعد موجه الثورات
والانقلابات العربية بعد الحرب العالمية الثانية وتأميم وسائل الإعلام هو تراجع الحرية
السياسية في الإذاعة، وإن بقي الأداء الثقافي الراقي إلى حين من الدهر بعد ذلك. عندئذ
بدأ نجم البي بي سي العربية في البزوغ بسبب الرغبة في الحصول على خبر صادق وسط طوفان
من الإعلام الموجه سياسيا خاصة بعد هزيمة عام 1967. وفي هذه الفترة ظهر الجيل الذهبي
من مذيعي البي بي سي والذين كانوا شبابا وقتها، مثل سامي حداد وجميل عازر وحسن الكرمي
والذين استمروا عقودا طويلة مع البي بي سي؛ محافظين على سمتها الثقافي والسياسي،
بل ونقلوا هذه الثقافة لقناة الجزيرة بعدئذ.
لم تكن شعبية البي
بي سي في
العالم العربي تخطئها عين خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات،
وكان تفاعل المستمعين معها على أشده، كما كانت مزايا هذه الإذاعة وقتها عند النخب الحاكمة
والمعارضة على السواء أكثر من أية عيوب أو ارتباط تاريخي مع الاستعمار البريطاني.
وفي المقابل، لم تبخل الإذاعة على المستمعين العرب من المحيط إلى الخليج بكل ما يطلبونه
من أغان وبرامج سياسية وفنون وآداب، وحتى القرآن الكريم الذي كان يُستهل البث به سنين
طويلة قبل أن يتوقف لاحقا. لكن ما بخلت به عليهم ولم يفطنوا إليه أو يطالبون به هو
طبيعة إدارة الإذاعة ودور المستمعين من المحيط إلى الخليج في هذا الأمر، من ناحية التأثير
وصناعة القرار الإداري والتحريري. ولهذا جاء قرار الإغلاق كصفعة على ملايين العرب الذين
ارتبطوا بها وأصبحت بحق جزءا من تاريخ العالم العربي من دون أن يكون للعالم العربي
أية كلمة أو رأي في قرار الإغلاق.
جاء الوقت ليستفيق
فيه الجميع على أن الديمقراطية تمنح
بريطانيا حق حرمان هذا الجمهور من هذه الإذاعة؛
ببساطة لأن هؤلاء العرب ليسوا كتلة تصويتية تستطيع أن ترغم أحدا على ما لا يريده، ومن
حكم في ماله فما ظلم. فهل هذه هي حقيقة الأمر؟ بالقطع كلا لعدة اعتبارات: أولا بغض
النظر عن الأحقية القانونية للبي بي سي في إغلاق الإذاعة العربية في النهاية، إلا
أن هذا الأمر يقع تحت بند التعسفي استخدام الحق. وفي الواقع هذا يتسق مع رؤية الغربية
الحديثة للحقوق لا سيما الحقوق الجماعية وأن عدم المطالبة بالحق يعني التنازل عنه.
فهذه في النهاية خدمة عامة وليست شركة خاصة، أي أن قرار إنشائها وغلقها يجب أن
تتوافر فيه المصلحة العليا العامة الشعبية وليس المزاج السياسي أو التجاري. والمصلحة
هذه يراقبها البرلمان بغرفتيه؛ والرأي العام والصحافة وجماعات الضغط والأحزاب.
يمثل هذا القرار صفعه للجالية العربية في بريطانيا تحديدا، نتمنى أن تكون صفعة إفاقة؛ لأنها جالية كبيرة ولها تاريخ وجذور ولو أرادت لنظمت مجموعات ضغط سياسية أو عامة من أجل مراقبة الأداء الإداري للإذاعة والدفاع عن مصالح المستمعين الذين يمثلون شريحة منهم
وثانيا: يمثل هذا
القرار صفعه للجالية العربية في بريطانيا تحديدا، نتمنى أن تكون صفعة إفاقة؛ لأنها
جالية كبيرة ولها تاريخ وجذور ولو أرادت لنظمت مجموعات ضغط سياسية أو عامة من أجل
مراقبة الأداء الإداري للإذاعة والدفاع عن مصالح المستمعين الذين يمثلون شريحة
منهم، فضلا عن أن الإذاعة تؤثر على مستمعين في أوطانهم الأصلية، ولكان يمكن للقرار
أن يتخذ منحى آخر.
لم تكن البي بي
سي العربية بأقل من راديو رمضان الذي أصبح ظاهرة قبل أكثر من عقدين من الزمان، بعد
أن تم منح عشرات رخص البث المؤقت للجاليات المسلمة في المدن البريطانية المختلفة
قبل أن يمتد هذا البث على مدار العام في المدن الكبرى مثل مانشستر وغلاسكو. وبالطبع
راديو رمضان ليس البي بي سي، لكن كان يمكن الاستفادة من طبيعة البي بي سي كمؤسسة خدمة
عامة للدفاع عن مصالح المستمعين لتكون بحق كما يطلبه المستمعون.