بنهاية الموجة الأولى من الربيع العربي التي انطلقت بثورات شعوب
المنطقة العربية وحقق بعضها هدفه بإسقاط أنظمة الاستبداد والفساد وفتحت المجال
واسعا للحرية والتحرر ثم انتكست مسارات انتقالها الديمقراطي وانحرف بعضها نحو
الفوضى بعد عشرية من المخاض العسير..
بذلك انتهت مرحلة مهمة من مراحل تطور الحركات والأحزاب الإسلامية في
المنطقة العربية في نسختها السائدة التي تشكلت منذ ما يقارب القرن رغم محاولات
التجديد والتطوير والمراجعات التي كانت في أغلبها جزئية واضطرارية وأحيانا شكلية.
ودون الانخراط في حرب المصطلحات التي أراد لها صانعوها أن تكون قوالب
جاهزة لتشويهها وعزلها اجتماعيا وضرب بعضها ببعض تمهيدا لتصفيتها.
ومن بين هذه المصطلحات الملغومة مصطلح الإسلاميين ومصطلح الإسلام
السياسي وما يحمل كل منهما في طياته من تعميم وخلط وتجميع للمتناقضات بين من يؤمن
بالعنف ومن يؤمن بالعمل السياسي السلمي الديمقراطي.
ورغم الحواجز الذاتية والموضوعية التي حالت دون التأثير العميق للحركات
الإسلامية السلمية في مجتمعاتها العربية المسلمة لبناء حالة متينة قادرة على حمل
مشروع الحرية والتحرر، فإن كل العمليات الانتخابية الديمقراطية قد حصلت فيها تلك
الحركات على ثقة شعوبها وفازت فيها بالأغلبية.
فما الذي جعلها تفشل في قيادة الانتقال الديمقراطي وإدارة الحكم؟ وهل
تعي الدرس في اتجاه التأسيس لمرحلة جديدة ذات نضج سياسي وعمق اجتماعي ودقة في
تقدير التوازنات الإقليمية والدولية؟
رغم الحواجز الذاتية والموضوعية التي حالت دون التأثير العميق للحركات الإسلامية السلمية في مجتمعاتها العربية المسلمة لبناء حالة متينة قادرة على حمل مشروع الحرية والتحرر، فإن كل العمليات الانتخابية الديمقراطية قد حصلت فيها تلك الحركات على ثقة شعوبها وفازت فيها بالأغلبية.
يعود فشل الحركات والأحزاب الإسلامية التي أدارت الحكم أو شاركت في
إدارته في عشرية ما بعد ثورات الربيع العربي إلى تضافر عدة عوامل ذاتية وموضوعية
لعل من أهمها :
1 ـ الخلط في فهم الإسلام بين العام والخاص أو بين الفردي والجماعي أو
بين الخطاب الموجه للأمة والخطاب الموجه لمكوناتها أفرادا وجماعات أو بين الموجه
للمجتمع والموجه للدولة صاحبه ضعف في التقدير واندفاع وتسرع عند التنزيل .
2 ـ وجود خلل في فهم طبيعة المجتمعات العربية الإسلامية من حيث
مخزونها الثقافي وعمقها الديني والصيرورة التاريخية لاجتماعها السياسي بما جعل
العمل على إصلاحها بأسلوب فوقي يؤدي إلى عزلة مجتمعية وتهميش للإصلاح السياسي الذي
انطلق مع مشروع النهضة العربية الإسلامية أواخر القرن التاسع عشر.
3 ـ خلل في فهم طبيعة الدولة العربية
الحديثة ذات البنية القومية كتطور طبيعي لمفهومة الدولة وبديل عن البنية
الامبراطورية بما أدى للتصادم معها بدل
استيعابها والعمل من داخلها لتنزيل مشروع النهضة العربية الإسلامية وتجنب عملية
الاستنزاف التي أريد لها أن تحصل بين الدولة والمجتمعات العربية الإسلامية لتكريس
الهيمنة الاستعمارية .
4 ـ المساهمة عن غير قصد في إجهاض مشروع النهضة العربية الإسلامية
الذي كانت انطلاقته سليمة من حيث منهج الفهم بطرح فكرة الاقتباس من الغرب للنظم
والوسائل في إطار عقائد الإسلام وقيمه وأخلاقه وفي إطار التلاقح بين الحضارات
الناشئة والحضارات الآفلة مثلما حصل بين الحضارات القديمة الفارسية والرومانية
واليونانية الآفلة والحضارة العربية الإسلامية الناشئة وكذلك ما حصل بين الحضارة
العربية الإسلامية الآفلة والحضارة الغربية الناشئة.
وقد كانت سليمة أيضا من حيث منهج العمل عبر بداية الأخد بالنظم
السياسية الغربية والآليات والإجراءات من خلال تكوين الأحزاب والجمعيات والمنظمات
والدعوة لاعتماد النظم الديمقراطية في إدارة الدولة والمؤسسات الوسيطة.
5 ـ الخلط من حيث منهج العمل بين الإصلاح المجتمعي والإصلاح السياسي
وتشكل بناه بصيغ بديلة للبنى الهيكلية للمجتمع وللدولة الحديثة وضمن مناخ تصادمي
فرض العمل السري الذي خلفت بنيته الهيكلية وآليات عمله تشوهات في مستوى العقل
القيادي والعقلية العامة في علاقة بالتقدير والتدبير جعل عملية التحول نحو التخصص
للإصلاح السياسي وإدارة الحكم الذي أتاحته التحولات السياسية التي جاء بها الربيع
العربي مستحيلة سواء في إدارة الحركات والأحزاب الإسلامية لشأنها الداخلي على أسس
ديمقراطية فلا حوكمة ولا شفافية ولا تداول في إدارة الشأن العام رغم إدراك بعض
التجارب لتلك المعضلة التي لم تجدي معها خيارات التفريع أو التمييز أو التخصص.
ما الذي جعل الحركات الإسلامية تفشل في قيادة الانتقال الديمقراطي وإدارة الحكم؟ وهل تعي الدرس في اتجاه التأسيس لمرحلة جديدة ذات نضج سياسي وعمق اجتماعي ودقة في تقدير التوازنات الإقليمية والدولية؟
6 ـ الإخفاق العملي في الالتزام بأخلقة الممارسة السياسية سواء في إدارة
الشأن الحزبي الداخلي أو الشأن العام للمجتمع والدولة بسبب ضعف التربية السياسية
على الممارسة الديمقراطية ضمن قيم الإسلام وأخلاقه رغم أن التربية على الشورى التي
لا تتناقض في جوهرها مع الديمقراطية تبدأ في الإسلام من الأسرة.
7 ـ ضعف التقدير والتدبير لموازين القوى الوطنية والإقليمية والدولية
التي خضعت إدارتها لدى الحركات والأحزاب الإسلامية للتوازنات الداخلية والرغبات
الذاتية والانفراد بالقرار بدل العقلانية والمأسسة والتدرج والمرونة وتحديد الأولويات
ضمن رؤية استراتجية.
8 ـ عدم القدرة على ممارسة الحكم لعدم الاستعداد له بإعداد البرامج
وبناء الكوادر والتأثير في النخبة ثم عدم القدرة على التحول إلى أحزاب حكم قادرة
على استيعاب الطاقات والكفاءات وتوظيفها رغم الفوز في كل المحطات الانتخابية .
9 ـ الوقوع في خطايا استراتجية قاتلة مثل الاعتماد في إدارة الحكم
على نتائج الصندوق فقط والاغترار بذلك والمنافسة على المواقع الأولى في الدولة دون
اعتبار لميزان القوى والتمسك بإدارة الحكم أو المشاركة فيه دون تقدير للعواقب أو
تحقيق إنجازات تذكر والمبالغة في إرضاء بعض النخب على حساب الجمهور الناخب
وانتظاراته .
10 ـ أهمية المنطقة العربية من حيث العمق الحضاري والديني والبعد
الاستراتيجي والموقع الجغراسياسي والموارد الطبيعية جعلها محط أنظار القوى الدولية
الرافضة لأي تحول ديمقراطي فيها من شأنه أن يحرر إرادة الشعوب ويضعها على طريق
الوحدة والفعل الحضاري خاصة إذا كان منطلقه الإسلام .
11 ـ وجود الكيان الصهيوني بالمنطقة الذي زرعه الغرب بخلفية ضمان
هيمنية الحضارية وحراسة مصالحه زاد من اعاقة اي توجه تحرري ديمقراطي في المنطقة.
*كاتب وناشط سياسي تونسي