تباينت المواقف حد التناقض داخل النخبة السياسية
التونسية مما حدث
يوم 25 تموز (يوليو) 2021 تحت عنوان تفعيل الفصل 80 من الدستور وشعار تصحيح مسار
الثورة، بين من اعترض عليه بشكل مبدئي من الوهلة الأولى واعتبره انقلابا على
الديمقراطية وتعطيلا للدستور واعتداء على المؤسسات الشرعية للدولة، وبين من اعترض
عليه بشكل انتهازي لحرمانه له من قطف ثمار ما قام به من ترذيل للمشهد السياسي،
وبين من اعترض عليه وساوى بينه وبين الأطراف التي أدارت مرحلة ما بعد الثورة أو شاركت
في إدارتها وبين من نظر لوقوعه ودعا إليه تصريحا وتلميحا وبين من أيده عند وقوعه
دون أن يدعو إليه.
ومثلما تباينت المواقف فقد تباينت خلفيتها بين الإيمان بالثورة
والديمقراطية والشرعية الانتخابية والقبول بالآخر والتعايش السلمي وبين الحقد على
الثورة وعدم الاعتراف بمخرجاتها والتربص بها منذ قيامها والاندراج ضمن الأجندات الإقليمية
والدولية المناهضة لتطلعات شعوب المنطقة وبين رفض الديمقراطية التي لا حظ للبعض
منها وبين الحقد الأديولوجي الاستئصالي وخاصة تجاه الإسلاميين، وغالبا ما تجتمع
لدى بعض الأطراف أكثر من خلفية وتقاطعات.
وبمرور الوقت بدأ بعض المؤيدين ينفضون من حول السلطة بعد أن يئسوا من
تحقيق انتظاراتهم مقابل الدعم الذي قدموه
خاصة بعد أن توضحت الصورة من خلال المرسوم 117 الذي كرس الانفراد بالسلطة وجعل
طموحات الطامعين في المشاركة في مهب الريح.. ثم بدأت تتسع رقعة المنفضين مع التقدم
في تنفيذ الأجندة السياسية للسلطة وعجزها عن حلحلة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
واعتدائها المتنامي على الحريات.
إلا أن التحول في مواقف بعض الأطراف السياسية أو الاجتماعية أو
الشخصيات لم يصاحبه تحول عن الخلفية الحقيقية التي انبنت عليها مواقفهم الأولى بما
حول
معارضة بعضهم إلى نوع من المناشدة البائسة للسلطة لإنقاذ نفسها وإنقاذهم قبل
فوات الأوان دون أن تجد دعواتهم ومبادراتهم بما في ذلك أشد الداعمين أي تفاعل أو
استجابة مع الإصرار على المضي في تنظيم
الدور الثاني للانتخابات أواخر شهر كانون الثاني (يناير) 2023 وبداية العمل بقانون
المالية وعدم الاكتراث بمواقف المؤسسات المالية الدولية وبما يعتمل لدى
الرأي
العام الشعبي من غضب وإحباط .
وبالتمعن في حصيلة مواقف المعارضة إلى حدود 14 كانون الثاني (يناير) الجاري
ذكرى عيد الثورة الذي يراد طمسه من أجل الإجهاز على الثورة وجميع رمزياتها. ومن
خلال ما حصل من تحركات ومظاهرات واجتماعات بدت في جانب منها نخبوية لكنها أكدت مدى
تجذر روح الثورة لدى طيف واسع من النخب التونسية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها
السياسية كما قطعت خطوة محتشمة بهذه الأطراف نحو التقاء ميداني، وإن كان جزئيا فإنه
معبر عن رسالة مهمة بأن الثورة والحرية هي مظلة الجميع وهي الأولوية المطلقة وواجب
الوقت في هذا المرحلة وأن ما دونها يصب بالضرورة في خانة عودة الاستبداد وقرينه
الفساد مهما أطلق أصحابه من شعارات براقة وتصريحات نارية ليست إلا مجرد فرقعات إعلامية
لا استتباعات عملية لها.
لقد مثل الالتقاء الميداني في شارع الثورة يوم 14 كانون الثاني (يناير) الجاري بصيصا من النور في آخر نفق الأزمة بانخراط بعض الأطراف السياسية والشخصيات في إحياء عيد ثورة الحرية والكرامة جنبا إلى جنب دون اعتبار للاختلافات الفكرية والسياسية الذي أتاح فرصة للبناء عليه وتطويره في اتجاه التقاء على برنامج حد أدنى وطني تكون فيه الأهداف والرؤية والتمشي للمرحلة المقبلة واضحة والإطار مفتوح لا يستثني إلا من استثنى نفسه..
ورغم تعالي الأصوت بالدعوات للإنقاذ من جميع الأطراف الموالية
والمعارضة في مشهد تنطبق عليه مقولة الإمام الشافعي لجمع من تلاميذه أثناء بحثهم
عن مصحف فقدوه "كلكم يبكي فمن سرق المصحف"؟؟؟ فالجميع الآن يدعو للإنقاذ
ولكن أي إنقاذ؟ ومن ينقذ من؟ هل هو إنقاذ لتونس وشعبها وثورتها وديمقراطيتها؟ أم
هو إنقاذ للسلطة من نفسها أم لبعض الأطراف السياسية والاجتماعية من غضب منظوريها
ومن ردود أفعال السلطة رغم مساندتها لها فعليا حينا وضمنيا أحيانا؟ على شاكلة
مبادرة منظمات المجتمع المدني الثلاث الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين
ورابطة حقوق الإنسان التي صاحب مخاض ولادتها تصريحات وشعارات وانتظارات رفعت السقف
ثم سرعان ما جاء المولود مشوها. فصيغة الحوارالمعلنة لا يمكن بأي حال أن تنطبق
عليها صفة الحوار لأنه مختزل في البعدين الاقتصادي والاجتماعي على أهميتهما القصوى
واستعجاليتهما فإن المفتاح الأساسي للأزمة سياسي بامتياز وهو ما لا يختلف حوله
عاقلان لأن حدث 25 تموز (يوليو) ساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وجعل
إمكانية التدارك مكلفة جدا إن لم تكن مستحيلة.
فالمنظمات الثلاث تدرك أن المناخ السياسي غير مناسب لصياغة حلول
اقتصادية واجتماعية وتنزيلها بعد الفشل الذريع للأجندة السياسية للسلطة لكن
ارتهانهم لتوازناتهم الداخلية وخلفياتهم الأيديولوجية والسياسية جعلهم يفقدون المبادرة.
وإلا فما تفسير الحديث عن حوار مختزل في أبعاده تعد المنظمات تصورا له في ظرف شهر
وتتوجه به للسلطة وتستثني كل الأطراف السياسية من التداول حوله؟ هل سيقدم ذلك حلا؟
أم سيكرس الدوران في حلقة مفرغة؟
إنه التيه والضياع الذي تعيشه البلاد سلطة وشعبا وموالاة ومعارضة وأحزابا
ومنظمات منذ انتخابات 2019، ثم استمر وتعمق ما بعد 25 تموز (يوليو) بما عرى الجميع
دون استثناء وغاب العقل وغلب منطق الحسابات الصغيرة السياسوية والأديولوجية
وضاع التقدير السليم لأولويات المرحلة واختل التمييز بين الاستراتيجي والتكتيكي بحجج واهية
تستند تارة إلى اختلافات الأحزاب، وكأن المشاركة في الحوار مرتبطة باتفاق
المتحاورين فيما بينهم بدل قبولهم بالمشاركة دون اشتراطات إلا من استثنى نفسه..
وتارة أخرى برفض مشاركة الأطراف المسؤولة عن قيادة العشرية الماضية وكأن الداعين
للحوار ومن لف لفهم لا مسؤولية لهم فيما آلت إليه الأوضاع.. وطورا بتعلة رفض
مشاركة الإسلاميين الذين يتم إلقاء مسؤولية العشرية كاملة على كاهلهم دون تنسيب.
لقد مثل الالتقاء الميداني في شارع الثورة يوم 14 كانون الثاني
(يناير) الجاري بصيصا من النور في آخر نفق الأزمة بانخراط بعض الأطراف السياسية
والشخصيات في إحياء عيد ثورة الحرية والكرامة جنبا إلى جنب دون اعتبار للاختلافات
الفكرية والسياسية الذي أتاح فرصة للبناء عليه وتطويره في اتجاه التقاء على برنامج
حد أدنى وطني تكون فيه الأهداف والرؤية والتمشي للمرحلة المقبلة واضحة والإطار
مفتوح لا يستثني إلا من استثنى نفسه عسى أن يساعد ذلك في تنضيج الأوضاع نحو طور
جديد من مسار الثورة التونسية وانتقالها الديمقراطي الذي يؤكد التاريخ القديم
والحديث لنضالات الشعوب من أجل الحرية وتجارب الانتقال الديمقراطي أن ما تمر به الآن
هو مجرد نكسة ستنتهي وتزول وليست هزيمة كما يمني بها البعض نفسه..
*كاتب وناشط سياسي تونسي