يُقدم الجوار
المغربي الإسباني حالة نموذجية لما يجب أن تكون عليه
العلاقات
الثنائية المحكومة بحتمية الجغرافيا، وضغط التاريخ، وضرورات بناء المستقبل
المشترك. فالمغرب وإسبانيا شاءت حتمية الجغرافيا أن يعيشا في تماس وجوار وتقابل لا
تزيد مسافته عن بضعة أميال. كما شاءت إرادة التاريخ أن يعرف البلدان، على مدار عدة
قرون، مراوحة مطبوعة بالمدّ والجزر، والتعاون والتوتر والتنازع.
ولاعتبارات موضوعية وذاتية غلب منطق الصراع على روح البناء المشترك، وأضاع
البلدان فرصا كثيرة وثمينة، تارة بسبب الرؤية النمطية التي تكونت لدى أوروبا،
وإسبانيا جزء منها، حول بلاد الإسلام، وطورا بدافع تعصب السياسات التي تبناها بعض
القادة الإسبان، وقد أبان التاريخ عدم سلامتها وجدواها.
لاعتبارات موضوعية وذاتية غلب منطق الصراع على روح البناء المشترك، وأضاع البلدان فرصا كثيرة وثمينة، تارة بسبب الرؤية النمطية التي تكونت لدى أوروبا، وإسبانيا جزء منها، حول بلاد الإسلام، وطورا بدافع تعصب السياسات التي تبناها بعض القادة الإسبان، وقد أبان التاريخ عدم سلامتها وجدواها
يُذكر أن إسبانيا احتلت شمال المغرب (المنطقة الخليفية)، واقتطعت جيوبا من
السيادة المغربية لا زالت محتلة حتى اليوم (سبتة ومليلية والجزر الجعفرية)، ناهيك
عن مدن في جنوب المغرب، بما فيها الأقاليم الصحراوية المسترجعة.
لعل من الصعوبة بمكان فهم العلاقات المغربية الإسبانية في تطورها التاريخي
جون استحضار هذه الخلفية، وتحليل جدليات التعاون والتوتر التي طبعت الجوار المغربي
الإسباني. فخلال السنوات الخمسين الأخيرة، أي منذ وفاة الجنرال فرانكو (1975) وحتى
اليوم (2023) تخللت العلاقات المغربية الإسبانية العديد من الأزمات السياسية
والدبلوماسية، وإن استمرت بشكل متقطع العلاقات الاقتصادية ولأمنية، حيث ظلت
إسبانيا زبونا تجاريا متميزا مقارنة مع غيرها من الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا
في بعض الأحيان، وتؤكد الإحصائيات ذات العلاقات بالمبادلات الاقتصادية والتجارية،
أهمية الحضور الإسباني في المغرب، من خلال عالم المقاولة والاستثمار.
ففي الواقع شكلت مرحلة ما بعد موت "الجنرال فرانكو"، أفقا جديدا لإعادة
بناء الجوار المغربي الإسباني على رؤية جديدة، قوامها الثقة، والاحترام المتبادل،
والبحث عن المشترك في كافة المجالات، خصوصا وأن إسبانيا دخلت عهدا جديدا في بناء
المؤسسات وترسيخ دولة القانون، وتكريس الاختيار الديمقراطي. بيد أن هذا لم يحصل فتوالت
الأزمات بين البلدين، بسبب عدم احترام إسبانيا للسيادة المغربية ومتطلبات حسن
الجوار.
ومع السنوات الأولى من الألفية الجديدة، وتولي العاهل المغربي سُدة الحكم (1999)،
زار كل من رئيس الوزراء "خوسيه لويس ثباتيرو" المغرب في نيسان/ أبريل
2004، وخلال شهر كانون الثاني/ يناير 2005 حلّ الملك "خوان كارلوس" ضيفا
على المغرب. وقد سعت الزيارتان إلى التخفيف من التوتر الذي طبع العلاقات المغربية الإسبانية
خلال السنوات الأولى من تولي الملك "محمد السادس" الحكم في البلاد، بسبب
اعتقال القوات الإسبانية في تموز/ يوليو 2002 جنودا مغاربة، حطوا الرحال في جزيرة
"تورة"، غير المأهولة والمتنازع عليها قبالة الساحل المغربي. وفي الآن
معا اشتكى المغرب من افتقار الدبلوماسية الإسبانية إلى الحياد في ملف الوحدة
الترابية المغربية، وانحيازها إلى أطروحة الانفصال.
وقد أعقبت هذين الحدثين أزمة أخرى نجمت عن الزيارة الرسمية لكل من رئيس الوزراء
(2006)، والملك (2007)، وستستفحل الأزمات بين البلدين بسماح السلطات الإسبانية
لرئيس "البوليزاريو" الانفصالية بدخول التراب الإسباني بشكل غير شرعي في
نيسان/ أبريل 2021، وهو ما أدى إلى قطع العلاقات بن البلدين، ودخول مرحلة جديدة من
الجفاء وتوتر العلاقات الدبلوماسية.
الجوار المغربي الإسباني سيشهد تغيرا نوعيا ابتداء من شهر نيسان/ أبريل 2022، حين ستقدم إسبانيا على خطوة شجاعة وغير مسبوقة باعتبار مقترح الحكم الذاتي المُصاغ من قبل المغرب، حلا متوازنا وواقعيا لحل الملف الترابي المغربي، خصوصا وأن إسبانيا خير من يعرف تفاصيل هذا الملف، وهي صانعة أحداثه. فقد لجأت إسبانيا، لأول مرة، إلى توضيح موقفها من قضية لوحدة الترابية المغربية، والخروج من دائرة الغموض والانحياز
غير أن الجوار المغربي الإسباني سيشهد تغيرا نوعيا ابتداء من شهر نيسان/
أبريل 2022، حين ستقدم إسبانيا على خطوة شجاعة وغير مسبوقة باعتبار مقترح الحكم
الذاتي المُصاغ من قبل المغرب، حلا متوازنا وواقعيا لحل الملف الترابي المغربي،
خصوصا وأن إسبانيا خير من يعرف تفاصيل هذا الملف، وهي صانعة أحداثه. فقد لجأت
إسبانيا، لأول مرة، إلى توضيح موقفها من قضية لوحدة الترابية المغربية، والخروج من
دائرة الغموض والانحياز، وهو ما دفع بالدبلوماسية المغربية إلى فتح صفحة جديدة في
العلاقات المغربية الإسبانية. فهكذا بادر العاهل المغربي إلى دعوة رئيس الوزراء
الإسباني في نيسان/ أبريل 2022، لوضع خريطة طريق للعلاقات المغربية الإسبانية
الجديدة، موسومة بالاحترام المتبادل، والصراحة والوضوح، والسعي إلى خدمة المشترك
بين البلدين.
لم تمر سنة على المبادرة الملكية لإعادة بناء تعاقد جديد بين المغرب
وإسبانيا، غير أن ما تحقق حتى الآن يؤشر، بكل وضوح، إلى أن صفحة جديدة تُكتب في تاريخ
الجوار المغربي الإسباني. فقد تضاعفت المبادلات بين البلدين، وتوسعت دائرة الثقة
بينهما، وتكاثرت الزيارات، وتنوعت المشاريع، وشرع البلدان في حصد النتائج في الاقتصاد
والتجارة، والتنسيق الأمني، ومحاربة الهجرة السرية والإرهاب. وبمنطق الأرقام
تجاوزت المبادلات بين البلدين عشرة مليارات يورو، والمستقبل واعد بالكثير من
الإنجازات، كما تقلصت موجات الهجرة السرية من المغرب نحو إسبانيا، وشرع الإسبان
وشركاؤهم المغاربة يلمسون معنى أن يكون الجوار مؤسسا على الوضوح ولاحترام المتبادل
والبحث الصادق عن المشترك.
فهكذا، أعطت القمة المغربية الإسبانية المنعقدة في الرباط يومي 1 و2 شباط/ فبراير
2023، الدليل على سلامة الرؤية المغربية الإسبانية الجديدة، كما قدمت مثالا لما
يمكن لثقافة الاحترام والتعاون المتبادل والاقتناع بالمستقبل أن تفتح من آفاق وسبل
للتعاون. فقد ترأس رئيس وزراء إسبانيا "بيدرو سانشيز" وفد بلاده مكونا
من اثني عشر وزيرا، وتم التوقيع على أكثر من عشرين اتفاقية، شملت كل القطاعات الاستراتيجية..
وبهذا يكون الطرفان قد دشنا عهدا جديدا، يصلح لأن يكون إطارا للاسترشاد والمقارنة
مع دول كثيرة تربطها مع المغرب علاقات، يمكن أن تتحول إلى شراكات استراتيجية.