كتاب عربي 21

ذكرى التنحِّي ورواية بكري

جيتي
كتب الأستاذ مصطفى بكري مقالين عن الثورة، وخَصَّ أحدهما بكواليس يوم الرحيل، وقَصَّ فيه ما أسماها مناقشات "الثلاثة الكبار"؛ عمر سليمان، وطنطاوي، وشفيق. وبغض النظر عن مدى صدق الرواية، فقد أعاد لنا النائب بكري أجمل ذكرى مرت علينا، رغم إفسادها من الثعلب الكبير الذي نحَّى "الكبيرين الآخريْن"، سواء بعدم قبول أحدهما في الانتخابات عام 2012، أو بالتحفظ على الثاني في انتخابات 2018.

كرر السيد بكري تبرئة الرئيس الراحل من إصداره أمرا بقتل المتظاهرين، وهي شهادة طنطاوي وسليمان كذلك، إلا أن تقرير تقصي الحقائق الخاص بـ"ثورة يناير" جاء فيه: "قرر وكيل جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق أن استعمال الأسلحة النارية لا يكون إلا بناء على أمر صادر من وزير الداخلية، وأن عليه إخطار القيادة السياسية. وأنه إذا استمرت الشرطة في استعمال الأسلحة النارية لأكثر من يوم، فلا بد أن تكون القيادة السياسية على علم بذلك".

يقوم النظام السياسي بدءا من أعلى سلطة فيه، وانتهاء بالمنتفعين من وجوده، بتشويه ثورة 2011 من جهة، وتبرئة رموز النظام الساقط من جهة أخرى، وإذا كان المنتفعون يدورون مع كل تحوُّل في الأنظمة، فإن رأس هذا النظام كان ينبغي أن يكون ممتنا لتلك الانتفاضة

للأسف يقوم النظام السياسي بدءا من أعلى سلطة فيه، وانتهاء بالمنتفعين من وجوده، بتشويه ثورة 2011 من جهة، وتبرئة رموز النظام الساقط من جهة أخرى، وإذا كان المنتفعون يدورون مع كل تحوُّل في الأنظمة، فإن رأس هذا النظام كان ينبغي أن يكون ممتنا لتلك الانتفاضة التي لولاها لكان الآن يرتدي جلبابا، ويرأس جمعية خيرية في مسجد بمحيط سكنه، وربما تعرض للعزل بسبب إفقاره لموارد تلك الجمعية.

رغم التشويه الحاصل، فإننا شاهدنا واقع مصر قبل الثورة، وأثناءها، وبعدها. وفِعْل الثورة كان أفضل ما مَرَّ بمصر -بعد نصر أكتوبر- منذ كارثة الاحتلال الأجنبي نهاية القرن التاسع عشر، ورغم مرور الوطن بمراحل انتصارات متعددة مثل جلاء الاحتلال، لكن فعل الثورة امتاز بأنه نجح في إعطاء المجتمع، للمرة الأولى في تاريخه الحديث، حق اختيار رئيس له من بين عدة مرشحين، وهذا نصر سياسي واجتماعي يفتح الباب لكل انتصار اقتصادي وعسكري أيضا.

تحدَّث السيد بكري أيضا عن عدم ممانعة الرئيس الراحل إحالة اختصاصاته إلى نائبه، ثم عدم ممانعته تخليه عن الحكم، وكان قد طلب من اللواء عمر سليمان أن يعدل صيغة الخطاب ليجعله "قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية" بدلا من كلمة "تَنَحِّيه"، وقد فعل مبارك الأمرَيْن بالفعل، أيّاً كانت الخلفيات التي دفعته إلى ذلك، فهو قرر الرحيل في النهاية دون صدام، وهذا كان مناسبا لحركتنا في الشارع، وفيما بعد اتضح أنه كان مفيدا لقيادات المؤسسة العسكرية أيضا.

الحنين إلى أيام مبارك هو وضع مفاضلة بين شرٍّ مُطلَق، وشرٍّ محتَمَل، بين فساد لا حد له ولا يلتفت إلى الفقراء ويطحنهم، وفساد كان يتدرج في سحق الفقراء بدرجات يمكن تحملها، بين رئيس لا نقيم له اعتبارا في أعيننا، ورئيس كنا نختلف معه ونطالبه بإصلاحات سياسية، بين رئيس لا نرى أملا في الإصلاح طالما هو في السلطة، ورئيس كنا نأمل في استجابته لمطالب سياسية واجتماعية

ربما بدأ يتكرر بين الذين شاركوا في الثورة حنينُهم لأيام مبارك، وربما لا يعني هذا الحنينَ إلى فترة حكمه بمثالبها ونواقصها، أو التنكُّب للمشاركة في الثورة. ربما لو كان للزمن أن يعود فستكون مسارات ما بعد الثورة هي محل التعديل، لا المشاركة في الثورة نفسها، والحنين إلى أيام مبارك هو وضع مفاضلة بين شرٍّ مُطلَق، وشرٍّ محتَمَل، بين فساد لا حد له ولا يلتفت إلى الفقراء ويطحنهم، وفساد كان يتدرج في سحق الفقراء بدرجات يمكن تحملها، بين رئيس لا نقيم له اعتبارا في أعيننا، ورئيس كنا نختلف معه ونطالبه بإصلاحات سياسية، بين رئيس لا نرى أملا في الإصلاح طالما هو في السلطة، ورئيس كنا نأمل في استجابته لمطالب سياسية واجتماعية. هو حنين -في النهاية- لا يرجو محو الثورة، بل يرجو تقويم اعوجاج مساراتها بعد النجاح الأول.

قبيل التنحي كان الميدان قد استجمع غضبه بعدما سُمِّي بـ"موقعة الجمل"، وأذكر أنني كتبت يوم 7 شباط/ فبراير منذ 12 عاما لرصد الاعتصام في ميدان التحرير: "الحديث مع المعتصمين له شجون، تستشعر منه روحا غير السخرية مطلقا، ترى روح التحدي والإصرار الشديدين اللذين لا يبدو أن هناك من يقدر على هزيمتهما. أحدهم يقول: مش هنمشي غير لما هو يمشي، أنا لما أروح وأقابل إخوتي الذين استشهدوا هقول لهم إيه؟ وآخر يقول: رغم البرد ده إحنا قاعدين مش هنمشي من هنا لحد ما نجيب حق إخوتنا ونمشيه".

ربما لا يعرف السيد بكري هذه الصورة المقابلة، لانشغاله بترتيب أموره الشخصية، وكذلك لم يكن الميدان محصورا في الإخوان المسلمين، كما يريد أن يصوِّر ويتماهى مع الرواية الأمنية، نعم كانوا التجمع السياسي الأكبر في الاعتصام، لكن الملايين كانوا يمدون الميدان بأفواج بشرية ضخمة صنعت روحا غير اعتيادية في تماسك وتلاحم الميدان. ونجحت الثورة بهذه المشاهد التي وصلت قطعا لأعلى المستويات السياسية، وكتبتُ حينها ملاحظة: "تواجد السلفيين والإسلاميين ملحوظ، وفي المقابل لم نسمع عن اعتداء على أحد من غير المسلمين، أو الفتيات أو الفتية غير الملتزمين، ولم نسمع من يجبر أحدا على الصلاة أو غيرها من المناسك، بل إن إحدى المتظاهرات المسيحيَّات وجدت أخا لها مسلما يسجد على الأرض فخلعت (شالا) كانت تضعه على كتفها لتضعه أمامه حتى لا يسجد على الأرض".

ما افتقدناه بعد الثورة مِن صُوَر التماسك كان صنيعة الرئيس الحالي، الذي فتت المجتمع بين قواه السياسية من جهة، وصنيعة القوى السياسية الانتهازية من جهة أخرى، وللأسف تورطت كل الكتل السياسية الكبيرة في مستنقع الانتهازية، بينما تورطت قيادات مؤسسة الدفاع في مستنقع التقسيم

ما افتقدناه بعد الثورة مِن صُوَر التماسك كان صنيعة الرئيس الحالي، الذي فتت المجتمع بين قواه السياسية من جهة، وصنيعة القوى السياسية الانتهازية من جهة أخرى، وللأسف تورطت كل الكتل السياسية الكبيرة في مستنقع الانتهازية، بينما تورطت قيادات مؤسسة الدفاع في مستنقع التقسيم، وكانت وظيفتها الأساسية الحفاظ على السِّلم الأهلي، لكنها تعمَّدت تفتيته لا الحفاظ عليه.

تمرُّ ذكرى التنحي وقد مضى ما مضى، ولا تُجدي الحياة بكاءً على الأطلال، وقد نجح المجتمع مرة في إزاحة استبداد جثم على قلبه عشرات السنين، والجيل الذي لم يشارك في الثورة لا يحِنُّ إليها، بل يتطلُّع إلى مستقبل أفضل وسيسعى إلى تحقيق ذلك بطريقته التي يراها مناسبة.

أما نحن، فسنظل ممتنِّين لما صنعناه، وستظل ذكرياته عندنا في قلوبنا وأوراقنا. وآخر ما أقتبس مما كتبته: "أخيرا عند الرحيل من الميدان تجد الواقفين يسألونك ليطمئنوا عليك: كلت وجبة كنتاكي وأخدت الـ50 يورو ولا مخدتهاش؟ ثم يودعونك بنفس الابتسامة الرقيقة قائلين لك: مستنيينك ترجع لنا بالسلامة". وأظن أننا سنرجع رغم بُعد السنوات.