قضايا وآراء

انتهاك حريّة الإنسان بفرض الأجندات عليه أو تصويره في العمل الإغاثي

الأناضول
بعدَ أن أدلى الطفل الواقفُ على الأنقاض؛ أنقاض الزّلزال وأنقاض الوطن الذي أثخنته الحرب أمام الكاميرا بالشّكر والدّعاء للجهة التي عالجته وقدّمت له الدواء؛ ومضى في سبيله، نسمعه وهو يقول لصاحبه وقد نسي المصوّر المايكرفون معلقاً في صدره: "امشِ امشِ أعطونا دوائين ويريدون منّا أن نقول ألفي كلمة!"، ثمّ يعبّر عن شعوره بالدّوار من مرضه ومن امتعاضه من القادمين لأجل التصوير.

كانت كلمات هذا الطّفل تعبيراً عمّا يجيشُ في صدور الكثيرين ممّن نكبهم الزلزال وهم يقفون أمام الكاميرات ليعلنوا شكرهم الباذخ، ويرسلوا دعواتهم الحارّة لمن منّوا عليهم بشيءٍ من المال أو الطعام أو الدّواء يقيم صلبهم أو يسترهم في العراء أو يعالج أجسادهم المنهكة.

إنَّ من أهمّ مقاصد العمل الخيري في الفكر الإسلامي تحقيق حريّة الإنسان الذي تمثّلُ الحاجةُ والفقر والمرضُ والجهل أبرزَ عناوين استعباده، والعمل الخيري هو إحدى أهمّ بوّابات تحقيق الحريّة.

فمن أعظم ما يمكن أن يحقّقه في الأزمات الطّويلة -التي تنطوي على تدمير واسعٍ للبنية البشرية والماديّة، وتفقيرٍ ممنهجٍ وتجهيلٍ كارثيّ- هو فكّ الرّقاب من ربقة الجهل، وتكسير أغلال الفقر، وتحرير المحتاج من العبوديّة وذلّ السؤال.

استغلال المنكوبين لتحقيق الأجندات الفكريّة والسياسيّة

إلَّا أنَّ ما يجري من محاولات البعض لفرضِ توجّهاتٍ سياسيّةٍ أو فكريّةٍ تتبنّاها الجهاتُ الدّاعمة أو المؤسسات الإغاثيّة والجمعيّات الخيريّة، أو الابتزاز مقابل الانتصار لاتّجاهٍ سياسيّ أو تنظيمٍ أو جماعةٍ فكريّةٍ أو شرعيّةٍ؛ يتناقضُ تماماً مع الحريّةِ التي ينبغي أن تكون القيمةَ الأسمى عند هذه المؤسسات.

ولا يعدو هذا النّوع من العمل الخيريّ أن يكون نقلاً للإنسانِ إلى شكلٍ جديدٍ من العبوديّة، فتحريرُ الإنسان من الفقر أو الجهل مقابلَ إخضاعِه للتّوجّه السياسي أو الدّيني هو من صور النّخاسة التي تلقى رواجاً في سوق العمل الخيري، والتي تقتضي مراجعتها وتداركها وتصويبها.

إنّ إلزام متلقّي المساعدات من المنكوبين والمحتاجين بالانتصار لتيّارٍ فكريٍّ أو سياسيّ معيّن أو جماعةٍ أو تنظيمٍ، وإحضارهم لتكثيرِ الأعداد في المناسبات الخاصّة بهذه الجماعات أو الأحزاب من مهرجاناتٍ أو احتفالات أو مظاهرات، أو الفرض عليهم أن يحملوا لافتاتٍ تناكف تيّاراتٍ سياسيّةً أخرى أو إلزامهم التّصويت لكتلةٍ معيّنة أو مرشّحٍ معيّن في انتخابات برلمانيّة أو غير ذلك من الانتخابات، أو الفرض عليهم أن يقدّموا الولاء أو الشكر الجماعيّ لتيّار فكري أو شرعيّ معيّن ترويجاً له؛ هو صورةٌ من أبشع صور الاستعباد والاسترقاق لصالح الجماعة والتوجّه الفكريّ والسّياسي.

الاسترقاق بالتّصوير

ومن صور الاسترقاق الباعث على الغثيان لصالح المؤسّسة الإغاثيّة أو الكيان الذي تتبع له أو الفريق الإغاثي؛ ما يجري من تصوير الفقراء والمنكوبين وهم يتلقّون المساعدات أو إلزامهم بتوجيه رسائل شكر مرئيّة للجهة المتبرّعة، في مشهدٍ ينتهك حريّة الإنسان وكرامته، ويجري ذلك بذريعة التّوثيق.

ومع اليقين أنّ كثيراً من هؤلاء الذين هبّوا لنجدة أهلهم المنكوبين يفعلون ذلك بحسن نيّة أو من غير سوء قصدٍ، وأنّ همّهم في ذلك التوثيق لأجل اكتساب ثقة المتبرّعين، إلّا أنّهم ينبغي أن يعلموا أنّ إظهار وجوه المنكوبين المنكسرة ونظراتهم الحائرة وهم يتلقون المساعدات الإغاثيّة يمثل انتهاك أبسط معاني الإنسانيّة؛ فكرامة الإنسان أغلى من الطعام والشراب والخيمة.

وهنا لا بدّ من التأكيد أنّ من حقّ بل من واجب الجهات الإغاثيّة القيام بالتوثيق فهو من أهم معالم العمل المؤسسي، لكنّ خلطاً كبيراً يقع بين التّوثيق وبين انتهاك حريّة الفقير والمنكوب، فالتّوثيق له آليّاته ووسائله التي يجب ألّا تمسّ المتلقّي بأدنى حرج، وهنا أدعو من يتصدّر للعمل الإغاثي أن يؤهّل نفسه ولو بشكل شخصيّ عبر المواقع الالكترونيّة المتاحة بأبسط قواعد التوثيق الإغاثيّ بما يحفظ كرامة الإنسان.

في النكبات الكبيرة يجبُ أن يكون هدف الإغاثة؛ الإنسان والإنسان فحسب، مع الحفاظ على حرية وكرامة هذا الإنسان وهو يتلقى المساعدات؛ فلا خيرَ في الإغاثة التي تسترُ البدن ثمّ تعرّي الكرامة، ولا خير في الإغاثة التي تجبرُ العظم ثمّ تكسرُ الخاطر، ولا خير في الإغاثة التي تبني خيمة أو منزلاً ثمّ تهدمُ الإنسان.

twitter.com/muhammadkhm