الكوميديا هي الناقل الأفضل للقِيَم والمواقف الأخلاقية والاجتماعية
والسياسية. ومرَدُّ ذلك إلى أنّ المفترَضَ فيها – والمتعارَف عليه – أنها تقدّم
لنا القِيمَ والمواقفَ المضادّة في صورةٍ تبدو جديرةً بالسخرية، فيبدو موقفُ صانع
الفِلم أو مجموعة القِيَم التي يريد أن يسوِّقَها البديلَ الأمثل الذي من شأنه أن
يحُلّ العقدة التي تسببها تلك القيم والمواقف المضادة، لاسيّما أنّ الكوميديا
تقترِن تقليديًّا بالنهايات السعيدة كما تخبرُنا بذلك خِبرتُنا بها وكما يورِد على
ذلك إرِك ﭬـايتس Eric Weitz أمثلةً
كثيرةً في كتابه "مقدمة كمبرِدج إلى الكوميديا"
The Cambridge Introduction to Comedy.
ومثال ذلك في أحد
أنجَح أمثلة المسرح التجاري عربيًّا – وأعني مسرحية "مدرسة المشاغِبين"
التي اقتبسَها علي سالم من الفِلم البريطاني "إلى المعلم مع الحُب" To Sir, with Love وظهرت في
سبعينات القرن الماضي – إعلاءُ قيمة الحِوار بين الأجيال، سواءٌ أكان ذلك في
الأسرة أم في المدرسة، بإبداء مثالب الاستبداد بالرأي وانعكاسها على الشباب
وسلوكهم في هذَين السياقَين الاجتماعيين.
وفي "جروب الماميز" من تأليف غادة عبد العال وإيهاب بليبل
وإخراج عمرو صلاح – إنتاج 2023 – تبدو القيم التي يحاول الفِلم مصالحتَنا عليها هي
مشاركة الآباء للأمهات في القيام بأعباء العناية بالأطفال، واعتراف المؤسسات
التعليمية بضرورة مشاركة الأمهات في صنع القرارات التي تمسّ حياةَ الأطفال
التعليمية.
وفي سبيل ذلك تسير بنا الحبكة نحو أزمةٍ يخلقُها بعض الأمهات المنتميات
إلى المجموعة الافتراضية لأمهات تلاميذ مدرسة أَپهِل الدولية Uphill
International School على تطبيق واتساب، أو ما أصبح يسمى
في المجتمع المصري "جروب الماميز"، وذلك بأن تترك كلٌّ منهنّ لزوجها
وأطفالها رسالةً في المنزل، تخبرهم فيها بأنها تنوي أن تتغيّب عن المنزل أيامًا،
وأنّ على الزوج أو من يقوم مقامَه (الحماة وعم الأولاد في إحدى الحالات) أن يرعى
الأطفال خلال هذه الفترة، وينجحن بطريقةٍ ما في الاستيلاء على حافلتَين من حافلات
المدرسة ويسافرن بهما إلى منتجَعٍ ما، يقضين فيه أيامًا هانئةً في معظمِها،
متحرراتٍ ممّا اعتدن حملَه من مسؤولياتٍ وأعباء، وفي النهاية يفاجَأن وهنّ موشكاتٌ
على العودة بقُدوم أزواجهنّ رُفقةَ مُدير المدرسة (الأستاذ توفيق الحزين، الذي
يجسّد دورَه محمد ثروت)، ويقدّمن مطالبَهنّ للرجال العائدِين، والتي تتلخص في أن
يقدّم المُدير الفاشل المتعنّت استقالتَه، ويكون لـ"جروب الماميز"
ممثلةٌ في مجلس الآباء تسهِم في وضع السياسات التعليمية للمدرسة وتراقبُ تنفيذها،
ويصبح أيُّ قرارٍ يتعلّق بمستقبل التلاميذ التعليميّ مسؤوليةً مشترَكةً بين الأب
والأمّ، فلا يعود للأب حقُّ الانفرادِ به، ويوافق رئيسُ مجلس الآباء على هذه
المطالب، يتبعُه الرجالُ جميعًا، وتتولى إدارةَ المدرسة الاختصاصيةُ النفسية التي
رفقَتهنّ في رحلتهنّ.
وبقَدر ما كان الثلاثيُّ الذي جسّد أدوار الأمهات الثلاث اللاتي قُدنَ
هذا الإضرابَ عن الأمومة موفَّقًا في تلبُّسِه تلك الشخصيات – وهنّ يسرا اللوزي في
دور "مَرام" وروبي في دور "فريال" ودارين حدّاد في دور
"رَندا" – جاء أداءُ الفنان الكوميدي "محمد ثروت" مبالِغًا في
الهزلية، ورغم خبرته الكوميدية الكبيرة وقع في هذا الدور الذي لا يُعَدُّ ما فيه
من الاختزال والتنميط مقبولًا حتى بمقاييس الكوميديا القائمة على قَدرٍ من
الاختزال والتنميط، خاصةً في المواقف التي تعبّر عن قِلة حيلة المُدير وقراراتِه
التي يأخذها ويتراجع فيها دون مبررٍ كافٍ حتى بأكثر المعايير الكوميدية تساهُلا.
لكن، عودةً إلى ثلاثيّ البطلات، نجِد أنّ يسرا اللوزي جسّدَت باجتهادٍ واضحٍ دورَ
السيدة الآتية من طبقة اجتماعية مكافِحة تسعى بأقصى ما أوتيَت من طاقة للّحاق
بطبقةٍ أعلى من خلال حرصها على إلحاق طفلَيها بمدرسة دولية مرتفعة المصروفات.
وروبي هي الأخرى تلبّسَت باقتدارٍ شخصية الأرملة الشابّة التي تبذل ما في وسعِها
لتأمين حياة طفلَيها وتبحث في الوقت ذاتِه عن زوجٍ جديدٍ بأساليب لا تخلو من
طرافة. وجاء اختيارُ دارين حدّاد بملامحها الأرستقراطية الصارخة مناسِبًا تمامًا
للصورة النمطية للأمّ غير المنسجمة مع أعباء الأمومة ومقتضياتِها. وعلى صعيدٍ آخر،
جسَّد محمود حافظ ببراعةٍ دورَ (أيمن) زوج (مرام) المتواضع الدَّخل الذي يعمل
مقيِّمًا للمَطاعِم ويتعامل مع مفردات الحياة ببساطةٍ مفرِطةٍ ويُلقي مسؤوليةَ
تأمين مصروفات المدرسة الباهظة التكاليف على زوجتِه الطموح.
في مقابل ذلك نجِد أنّ الفِلم قد أثارَ عرَضًا مشكلاتٍ معيّنةً كانت
جديرةً بأن يناقشَها بعُمقٍ، أو بألّا يثيرَها من الأساس حتى لا يترُكَها مطروحةً
هكذا دون حلّ. وعلى رأس هذه المشكلات ما نراه حين يقدّم أيمن طلبًا لإدراة المدرسة
لسَحب طفلَيه منها بُغيةَ التقديم لهما في مدرسةٍ أخرى، لِما يراه من تعثُّر
زوجتِه مَرام في تأمين مصروفاتهما المدرسية وعجزه عن مساعدتِها بهذا الصدَد. حين
تكتشِف مَرامٌ ما فعلَه يبدأ معها حوارًا من طرفٍ واحدٍ، فيقول إنها بإصرارها على
بقاء طفليهما في تلك المدرسة لا تشتري جودةَ تعليمٍ وإنما تشتري طبقةً اجتماعيةً
لا تنتمي أسرتُهما إليها، ثمّ يَشرع في تعديد أسماء الأعلام المصريين البارزين
الذين تلقَّوا تعليمًا حكوميًّا ونبغوا، لكي يُبَرهِن لها أنّ ما فعلَه ليس بغاية
السوء كما تتصور.
وصحيحٌ أننا نعرفُ ضمنيًّا أنّ كلامَه ينطوي على مغالَطةٍ، إذ إنّ
هؤلاء الأعلام (أحمد زويل ومجدي يعقوب ومحمد غنيم والشيخ الشعراوي وغيرهم) قد
تعلّموا تعليمًا حكوميًّا في زمنٍ ماضٍ كان ذلك التعليمُ فيه أكثرَ تماسُكًا
وجِدّيّةً مما هو عليه في زماننا، إلا أنّ الفِلم قد تجاهلَ تمامًا هذا السؤال: هل
ينبغي أن نُبقيَ على هذا التفاوُت في مستويات التعليم بين أنظمتِه المختلِفة في
مصر أو أن نكرِّسَه كما يبدو أنّ الفِلمَ يَفعل؟ ونقولُ إننا نَعرفُ كذلك أنّ هذا
الأمرَ ليس صُلبَ موضوع الفِلم، وأنّ الحلَّ المُقترَح في النهاية هو أن توفِّرَ
تلك المدرسةُ الدوليةُ مِنحًا تعليميةً لطُلّابها المتفوّقين، إلا أنّ ذلك لا يجيب
عن سؤالنا الذي أثارَه كلامُ (أيمن)، وإنما هو حلٌّ ينطلِق من التسليم بأنّ جودةَ
التعليم الدوليّ في مصر ليست في محلّ مقارَنةٍ بالتعليم الحكوميّ، ما يجعلُ
الفِلمَ يبدو وكأنه يستهدِفُ فعلًا جمهورًا من طبقاتٍ اجتماعيةٍ متوسطةٍ فما فوق،
متجاهلًا مشاعرَ الفقراء الذين قد يقرر أحدُهم أن "يفُكّ عن نفسِه"
بمشاهدة الفِلم، ليُصدَم بأنه محكومٌ عليه وعلى ذريتِه بمستوىً تعليميٍّ يمثّل
مهانةً ومَذلّةً تفرُّ منهما (مرام) بطفلَيها!
وثَمّ مشكلةٌ أخرى تتعلّق بأخلاقيةِ إضراب الأمّهات عن الأمومة لأيام!
إنّ لدينا سابقةً شهيرةً في الكوميديا الإغريقية القديمة عن إضرابٍ نسائيٍّ عامٍّ،
يأتينا من مسرحية "ليسستراتا" لأرسطوفان، حيث يتفتّق ذهنُ الشخصية التي
يحملُ العنوانُ اسمَها عن خطّةٍ لحَمل رجال أثينا واسبرطة على إنهاء الحرب وإحلال
السلام، وفحواها أن تُضربَ الأثينياتُ والاسبرطيّاتُ عن ممارسة الجنس مع أزواجهنّ
حتى يحققوا هذا المَطلَب. وتنفّذ الخطةُ وتنجح بعد أن تمرّ بصعوباتٍ كوميديةٍ
بالطبع. ورغم ما يقولُه النُّقّاد مِن أنّنا لا ينبغي أن نبالِغ في تصوُّر مناصرة
أرسطوفان للنساء – فقد كان ابنَ مجتمعِه الذي لا يمنح النساء أية حقوقٍ سياسيةٍ،
وكان يَكتبُ لطاقَم ممثّلين ذكورٍ بالكامل، يمثّلون لجمهورٍ أثينيٍّ هو الآخَر من
الذكور بالكامل – فإنّنا لا نخطئ تصويرَ "ليسستراتا" لصلابة عزيمة
النساء وعُمق حكمتهنّ. ويبقى ما فعلنَه في المسرحيةِ أخلاقيًّا تمامًا بالنظر إلى
الغاية من ورائه. لكنّ الأمومةَ مسألةٌ أخرى. إنها تلك الغريزةُ الأقوى من الجنس
ومن كلّ شيءٍ لدى إناث الأحياء جميعًا، وقُصارَى ما طمحَ إليه فُجورُ الشاعر
الجاهليّ الأكبر امرئ القيس في هذا الصدد أن يقول عن تنازُع غريزتَي الجنس
والأمومة في المرأة التي يحبُّها وعن رضيعِها:
"إذا ما بكَى مِن خَلفِها انصرَفَت لهُ ..
بشِقٍّ، وتحتي شِقُّها لَم يُحَوَّلِ"!
وأخيرًا
فهناك تلك اللافتة في نهاية الفِلم "مجلس الآباء وجروب الماميز" على باب
إحدى قاعات المدرسة. قد يبدو الأمرُ هامشيًّا أو لا يدخل في صُلب الموضوع، إلا أنّ
مِثلَ تلك الإشارات الخافتة في الكوميديا بالتحديد يستحقُّ التعقيبَ عليه. إنّ
الواقعَ يقولُ إنّ مجلسَ الآباء في أية مدرسةٍ يضمُّ آباءً (رجالًا) وأمّهاتٍ، دون
تمييز. ومفردة الآباء في اللغة لا تعني أصلًا الآباء الرجالَ فحَسب،
وإنما درَجت العربية على تغليب جمع المذكَّر إذا كانت المجموعة المُشارُ إليها
بالكلمة تضمُّ المذكَّر والمؤنَّث، وليس في هذا ما يضُرُّ، خاصةً إذا نظَرنا إلى
كلمةٍ أخرى في العربيةِ يُقصَد بها الآباء من الجنسَين، وقد غلَّبَت فيها اللغةُ
الفِعلَ الذي تستأثر به الأمّهاتُ حقيقةً لعِظَم خطرِه، وأعني هنا كلمة
"الوالِدَين" أو "الوالِدِين"، فالأمُّ وحدها هي التي تلِدُ
بالطبع على الحقيقة، إلا أنّ جلالَ فعل الولادة جعلَ الإشارةَ به إلى الأبوَين
تكريمًا لهما في قلوب أبنائهما. والخلاصة أنّ الإشارة إلى "جروب
الماميز" مع "مجلس الآباء" تذكّرُنا بدعاوى ما يسمى بالإصلاح
اللغويّ النسويّ، تلك الدعاوى التي تُغفِل في تعامُلِها مع ثقافتِنا خصوصيةَ اللغة
وأصولَ مفرداتِها وتاريخَها التداوُليّ. قد يُقال إنني أحمِّل الأمرَ فوقَ ما
يحتملُ، لكنّنا إزاء كوميديا، والكوميديا نوعٌ فنّيٌّ هو الأخطر في التلقّي، ولا
ينبغي أن تمُرّ مقترحاتُه "البريئة" مرورَ الكِرام.
أخيرًا،
فقد صنعَت غادة عبد العال وإيهاب بليبل وعمرو صلاح كوميديا خفيفة لطيفة، وحاولا من
خلالِها رصدَ عدة شرائح من المجتمَع رصدًا يحاول أن يكون شاملًا، لكنهما في ثنايا
هذا الرصد أثارا مشكلاتٍ أتصوّر أنّ الفِلم كان في غِنىً عن إثارتِها، ومازلنا في
انتظار الأفضل من صُنّاع الفِلم جميعا.