يمثل
التفاهم الإيراني
السعودي برعاية صينية مقياسا اختباريا حقيقيا لوزن الدور الأمريكي الحالي على
الساحة الدولية عموما وفي المنطقة العربية ومحيطها على وجه الخصوص. وعلى افتراض أن
ما تعيشه الساحة الدولية من
علاقات تتسم بالصراعية غالبا، وبالذات مع إصرار وسعي
بعض القوى العالمية للعب أدوار تعديلية لواقع الأحادية القطبية التي لا زالت سائدة
في العالم، يمكننا قراءة مستجدات المشهد المفاجئة في سياقات مختلفة يصل بعضها إلى حالة
من التكامل والتداخل، ويصل البعض الآخر لمستوى من التناقض ضمن السياقات المنطقية؛
كلٌ في إطاره المُفسّر للأحداث ومآلاتها.
إن طبيعة
التوجهات
الصينية مؤخرا تقوم على تعبئة وإشغال كل حيّز يُمكّنها من تعزيز
الاستقرار الدولي اللازم لنمو نموذجها الاقتصادي، ناهيك عن كون ذلك يعزز مصداقيتها
في السعي نحو عالم تسوده علاقات تعاونية قائمة على مبادئ الاعتماد المتبادل وهو ما
ينطوي على تقويض ضمني لمبادئ المعسكر الآخر القائم على الهيمنة والتفرد، لتحمل
رؤية الصين للعالم بذلك سمات مميزة وفارقة تريد بها أن تبدو أكثر جذبا للآخرين،
على الأقل وفقا لما تبديه في المرحلة الحالية.
إن الاتفاق الإيراني السعودي لا يعد مفاجئا لذاته فحسب، وبل ولكونه يحمل بصمات الصين في الرعاية والإخراج على غير العادات المتبعة في المنطقة العربية ومحيطها، ليجعلنا أكثر شكّا وحيرة وتساؤلا عن الكثير من النقاط والسيناريوهات المفسرة لما جرى
إن الاتفاق
الإيراني
السعودي لا يعد مفاجئا لذاته فحسب، وبل ولكونه يحمل بصمات الصين في الرعاية والإخراج
على غير العادات المتبعة في المنطقة العربية ومحيطها، ليجعلنا أكثر شكّا وحيرة
وتساؤلا عن الكثير من النقاط والسيناريوهات المفسرة لما جرى.
والحقيقة أننا في
سياق محاولات فهم وتفسير مجريات الاتفاق نجد أنفسنا أمام افتراضين، أحدهما يدفع
بنا للتسليم بتضاؤل ثقل الدور الأمريكي عالميا وتراجع محوريته في المنطقة لصالح قوى
صاعدة؛ أولها الصين المتطلعة بتعطش لإشباع نهمها الطاقوي من منطقة تحتوي على أعلى مخزون للنفط في العالم. ويعزز هذا الافتراض بالطبع افتراضا
متعلقا بتخبط الإدارة الأمريكية وعدم وضوحها حيال تولي محمد بن سلمان العرش
السعودي، ويدعم هذا والافتراض أيضا كون
السعودية لم تحظ حتى اللحظة بصفة الحليف
للولايات المتحدة الأمريكية وهو ما يمنع عنها العضوية بصفة مراقب في حلف الناتو على
غرار دول أخرى في المنطقة، وهو ما يعيق أيضا تزويدها بنوعيات ذات مستوى أعلى من
الأسلحة الأمريكية الحساسة لغياب مبررات ذلك في الكونغرس الأمريكي. كل هذه
المؤشرات تعزز فرضية تضرر بنيوية العلاقات الأمريكية السعودية واستدارة السياسة
السعودية نحو قطب عالمي آخر بات صعوده منتظرا.
وأما الافتراض
الرئيسي الثاني فيقوم على أن كل ما حصل جاء في إطار ترتيبات الدور الأمريكي
لتطورات المشهد في المنطقة والعالم، وهذا السيناريو ينطوي غالبا على المزيد من
الافتراضات الجزئية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، ويقوم أساساً على أن الأمريكي
لا يسمح بأي حال لأي جهة في نطاق نفوذه من الاقتراب والتعاون مع الصين المنافس
القطبي المحتمل، وهو ما دفعه لإظهار خطوطه الحمراء أمام ربيبته الأولى "إسرائيل"
في عدة محطات اقتربت فيها من الصين أو حاولت الاقتراب منها لأهداف تتعلق بالأسواق
والتقنيات العسكرية، لتسارع أمريكا حينها لإنهاء ذلك بحزم، وهو مؤشر يمكن القياس
عليه في الحالة السعودية؛ مع أهمية الأخذ بعين الاعتبار أن الصين هنا وسيط وطرف
غير مباشر في العلاقة وأنها قد تكون مستدعاة لضرورة الضغط على الطرف الإيراني وليس
أكثر.
أن افتراضا آخر قد ينبهنا إلى أن ما حدث جاء في سياق متعلق بطرف رئيس في هذا التفاهم ألا وهو الطرف الإيراني الذي يعيش اتفاقه النووي مزيدا من الانتكاس والجمود، ما شجع الإسرائيلي على تكثيف دعواته ودفعه باتجاه بلورة فعل عسكري جماعي ومشترك في المنطقة حتى وإن كان بلا مباركة أمريكية، وهو ما يدفع واشنطن للسماح بهذا التقارب حتى وإن كان برعاية صينية كونه ضرورة لكبح جماح الغرور الصهيوني في هذه المرحلة
وفي سياق آخر
تتمثل حاجة الأمريكي لاستثمار المزيد من القلق والإحراج الموجهين لعقلية اليمين
الصهيوني الحاكم في
الكيان الإسرائيلي، حيث إن طبيعة طُرق الضغط الأمريكي المتبعة
على حكومة نتنياهو والهادفة لإعادة هذه الحكومة المجنونة إلى حظيرة الإرادة الأمريكية
وإرضاخها لسياساتها وإدارتها ولو بشيء من الخشونة، الأمر الذي قد حصل أكثر من مرة
سابقا؛ أبرزها حين غضت أمريكا الطرف عن الجهد الحربي المصري في أكتوبر 1973 والذي
مثّل ضرورة لتقليم أظافر الكيان الصهيوني وعقلنته وتجهيزه لكامب ديفيد ضمن النسق
الوظيفي المراد له وفق الرؤية الأمريكية آنذاك. ولعل طرد بعثة الكيان من القمة
الأفريقية وتخفيض مستوى تمثيله الدبلوماسي في جنوب أفريقيا ليس بعيدا عن هذا
الإطار، الذي يحمل شاهدا آخر لمحاولات الضغط الأمريكية على الكيان مؤخرا تبرزه
دعوات داخل أمريكا نفسها لمقاطعة زيارة وزير مالية الكيان المزمعة إليها قريبا.
كما أن افتراضا آخر
قد ينبهنا إلى أن ما حدث جاء في سياق متعلق بطرف رئيس في هذا التفاهم ألا وهو الطرف
الإيراني الذي يعيش اتفاقه النووي مزيدا من الانتكاس والجمود، ما شجع الإسرائيلي
على تكثيف دعواته ودفعه باتجاه بلورة فعل عسكري جماعي ومشترك في المنطقة حتى وإن
كان بلا مباركة أمريكية، وهو ما يدفع واشنطن للسماح بهذا التقارب حتى وإن كان
برعاية صينية كونه ضرورة لكبح جماح الغرور الصهيوني في هذه المرحلة.
وعلى النقيض
تماما، إذا ما قمنا باستدعاء جزئي لنظرية المؤامرة فإن وصول أمريكا لقناعات متعلقة
بحسم إيران لاصطفافاتها الدولية في المعسكر المعادي لأمريكا عالميا وذهابها بعيدا
بالتأثير سلبا على المصالح الاستراتيجية الأمريكية، فقد نذهب إلى أخذ ما جرى على
محمل التسكين اللحظي المخادع والممهد لضربة عسكرية لإيران بهندسة وقيادة أمريكا
نفسها، وأن ما حدث لم يكن سوى نوع من الخداع الاستراتيجي ليس أكثر، مع ملاحظة
مستوى المكاسب غير المسبوق للدور الأمريكي عالميا في حال نجحت أمريكا بتقليل مخاطر
ذلك الافتراض.