لا تزال
التعليقات مشتعلة في الأوساط السياسية والدبلوماسية الإقليمية حول
المصالحة
السعودية-
الإيرانية برعاية الصين، التي شكّلت حدثا صادما ومن خارج السياق المتوقع
لمسار الأحداث الملتهبة في الشرق الأوسط، فيما ألقى الموضوع بثقله على الساحة
السياسية
اللبنانية بسبب تعدد القراءات التي غلبت عليها مطالعات من المبالغة
والتكهن غير المحسوب، والإعلان عن نتائج تتلاءم وتتناسب مع تمنيات القوى والمرشحين، وتحديدا الفريق الداعم لوصول سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا، وذلك بالتزامن مع أقسى
الأزمات المالية وهول الانهيارات، مع أزمة معيشية باتت تخنق اللبنانيين وتدفع بهم لخيارات
صعبة؛ أسوأها الانتحار أو الهجرة عبر البحر.
وهذه التمنيات
اللبنانية تنطلق من مسارات متشابكة، بكون الصراع السياسي والطائفي في لبنان هو
امتداد للنزاع الإقليمي الكبير، لكن اللبنانيين لم يتعلموا يوما أنّ سلوكهم
العاطفي تجاه النزاعات التي دمّرت وما تزال بلدهم، لا يؤدي سوى إلى مضاعفة المآسي، وإلى دفع فواتير باهظة الثمن، وهو ما كان يحصل دوما.
وثمة من يعتقد أن
تفكيك أي من الأزمات السياسية في لبنان يستدعي البحث عن الآلية التي تسمح بعبور
حقل من الألغام المتنوعة، وتجاوزها بأقل الخسائر الممكنة، وخصوصا أن المرحلة المقبلة
باتت تحتاج إلى مجموعة صلبة من الشخصيات الإصلاحية، التي دفعت المنظومة السياسية
بهم خارج البلاد بحثا عن فرص أكبر.
هذه التمنيات اللبنانية تنطلق من مسارات متشابكة، بكون الصراع السياسي والطائفي في لبنان هو امتداد للنزاع الإقليمي الكبير، لكن اللبنانيين لم يتعلموا يوما أنّ سلوكهم العاطفي تجاه النزاعات التي دمّرت وما تزال بلدهم، لا يؤدي سوى إلى مضاعفة المآسي، وإلى دفع فواتير باهظة الثمن
وبالعودة لجذور
الاتفاق الذي وُصف بالتاريخي، فإن مقدماته انطلقت عقب تعثر المسار عراقيا، وبالتزامن
مع زيارة الرئيس الصيني السعودية وتنظيم مجموعة من المؤتمرات العربية والخليجية له
في الرياض، حينها أبلغت بكين المسؤولين في السعودية، أن لديها القدرة الكاملة للدفع
باتجاه خلق مظلة توافق بين الرياض وطهران، انطلاقا من حاجة الطرفين بعضهما لبعض، في ظل
التحولات العالمية الجارية والمترافقة مع حرب روسيا في أوكرانيا.
ورغم حديث مستشار
الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان على إحاطة أمريكية بالاتفاق، لكن الحقيقة المُرة
بالنسبة لواشنطن، هي أن بكين خطفت الأضواء من دور الأحادية الأمريكية المعهود، لكن
ثمة جوانبَ أساسية تستفيد منها واشنطن، خصوصا أن الدور الصيني يرتكز على قوتها
الاقتصادية، بينما النفوذ الأمريكي ينطلق من السيطرة العسكرية والأمنية، وهو العامل
الأساسي لتأمين السطوة الدولية.
وأتت زيارة
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى الصين، لتثبيت مسار الحوار البناء الذي ترعاه
هذه المرة دولة كبرى وذات تأثير اقتصادي وسياسي عالمي، وهذا النقاش يندمج مع سياسة
خارجية سعودية جديدة، بدأتها السعودية مطلع هذا العام بدعم أوكرانيا بـ400 مليون
دولار، وزيارة وزير الخارجية فيصل بن فرحان إلى كييف، بالإضافة إلى مناقشة هذه
التطورات مع مسؤولين في وزارة الدفاع والأمن القومي الأمريكي، بحضور مسؤولين خليجيين
باجتماع عقد في الرياض منذ أسابيع قليلة.
وهذه السياسات
السعودية الجديدة مردها الرئيسي شعور الرياض أنها باتت في مواجهات مفتوحة مع معظم
القوى الإقليمية الفاعلة، وجدت السعودية نفسها مطوقة في حينها. وقد طوقت أكثر في
صراعها الذي كان مفتوحا مع تركيا وقطر وباكستان وماليزيا، بالإضافة لأزمات متعددة
حيال السياسات الداخلية ومؤشرات الحريات؛ فتحت الباب أمام منفذ للتدخل الأمريكي
المستمر.
مجموعة أسئلة مهمة عن خلفية وتوقيت التعيين وحول ارتباطه بالاتفاق الإيراني- السعودي، عبر إعادة طرح اتفاق سلام بين تل أبيب والرياض، والشروط السعودية المتعلقة بالتسليح وإنشاء مشروع نووي سلمي، وهو لم يحظ حتى اللحظة بموافقة أمريكية
والاتفاق ترافق
مع أحاديث يومية حول إمكانية اندلاع حرب إسرائيلية مع إيران، ومن ثم جرى تصوير الاتفاق
على أنه مسعى للدفع باتجاه قطع الطريق على أي مغامرة إسرائيلية في المنطقة. كما أن
الاتفاق يأتي على وقع سعي إسرائيل إلى فتح علاقات مع الرياض، كذلك مع إقرار مجلس
الشيوخ الأمريكي تعيين مايكل راتني سفيرا في الرياض، عقب استقالة السفير السابق
قبيل سنتين، حيث عمل قنصلا في القدس، وهو على اطلاع كبير بمسارات التطبيع
والاتفاقات الإبراهيمية.
وهذا التعيين فتح
الباب أمام مجموعة أسئلة مهمة عن خلفية وتوقيت التعيين وحول ارتباطه بالاتفاق الإيراني-
السعودي، عبر إعادة طرح اتفاق سلام بين تل أبيب والرياض، والشروط السعودية
المتعلقة بالتسليح وإنشاء مشروع نووي سلمي، وهو لم يحظ حتى اللحظة بموافقة أمريكية.
لكن المؤشرات
الميدانية للاتفاق على الرغم من كل ما يحكى، هو أن حدّة النزاع في الخليج ستتراجع، ليحل مكانها الأداء "التبريدي" في البحر المتوسط، والممرات النفطية في
الخليج ومضيق هرمز، وهو ما سيطمئن الدول المصدرة والمستهلكة للنفط، بعدما أدت المواجهات
والاستهداف المستمر لناقلات النفط إلى ارتفاع التكلفة ما بين شركات التأمين وأصحاب
السفن العملاقة، وخاصة أن الضمانة الصينية للاتفاق صارمة بالنسبة إلى الجانب الإيراني؛ لأن بكين ستكون أحرص على ضمان نجاح تطبيق الاتفاق، ليشكل ذلك لاحقا نجاحا لدورها
كوسيط دولي رئيسي في العالم.
أما الشق
اللبناني، فهو المؤشر الفعلي على سياسة فصل الملفات بين الرياض وطهران، انطلاقا من
الموقف السعودي الصارم في ملفي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وشكل النظام
السياسي في لبنان، واتفاق الطائف الذي باتت تخشى السعودية من استهدافه وطي صفحته، في ظل دعوات الفيدرالية والتقسيم والانفصال.
الجميع في لبنان سيكون أمام انعطافة في طبيعة علاقة الدول معه، إذا ما اعتقد حزب الله أنه يستطيع فرض وصول حليفه إلى بعبدا برفض مسيحي، وتحفظ سني، مع عصا غليظة تحملها القوى الخارجية،
وبدا جليا أن ما
كرسه اجتماعا باريس والرياض الخماسيين، والاجتماعات الثنائية بين السعودية وقطر،
وقطر ومصر، وفرنسا والولايات المتحدة، هو توحيد للمعايير الرئاسية وعدم القبول
بصيغ التسويات، التي من شأنها أن تعيد لبنان للمربع الأول؛ الذي انطلق العام 2010
بالانقلاب على حكومة سعد الحريري، ودُشن بالتسوية الهجينة بين حزب الله وعون
والحريري على قواعد هشة وغير متوازنة.
وليس سرا أن
السفير السعودي الذي يلتقي القيادات اللبنانية، كان واضحا بدفتر الشروط الخماسية،
أي: رئيس توافقي لا يشكل فوزه غلبة فريق على آخر، ورئيس حكومة إصلاحي- سياسي- تقني
يعيد الأمور إلى سكة الانتظام والتفاعل الدولي مع لبنان. كذلك فإن جولة الموفد
القطري المستمرة منذ أول الأسبوع إلى لبنان، كانت كفيلة بإعطاء الانطباع نفسه لدى
الفريق المتبني لوصول فرنجية، وهو تلاقي الأطراف الخارجية على الشروط نفسها، على
الرغم من التخوف المستمر من تسويات ماكرون وفريقه.
وعليه، فإن الجميع
في لبنان سيكون أمام انعطافة في طبيعة علاقة الدول معه، إذا ما اعتقد حزب الله أنه
يستطيع فرض وصول حليفه إلى بعبدا برفض مسيحي، وتحفظ سني، مع عصا غليظة تحملها
القوى الخارجية، قد تسبب هذه المرة غرقا كبيرا يصعب الخروج منه بأقل الأضرار.