قضايا وآراء

"غيبة الرئيس" تداخل السياسي والأخلاقي

طرح غياب سعيد تساؤلات عن صحته وعن شغور المنصب- جيتي
المجتمع التونسي أصبح بعد 2011 "مجتمعا سياسيا" سواء من جهة عدد الأحزاب الذي تجاوز المائتين أو من جهة الاهتمام بالشأن العام في كلياته وتفاصيله، فلم تعد السياسة عملا محرما أو ممنوعا ولم تعد تخصصا أو احتكارا. صار الجميع يتكلمون في كل المسائل ويمارسون النقد والانتقاد وحتى التجريح، لا يُستثنى من ذلك أي كان مهما كبرت مسؤوليته أو علا مكانه وتعالت مكانته.

الحرية هي دربة على "الاستقامة"، وهي ضمانة رئيسية لبناء مواطن متمدن متحضر، نظل نخطئ ونصيب ونتعلم من أخطائنا ونراجع أنفسنا ونستفيد من غيرنا في أجواء من الحرية العارمة. ونحن في مسار دربتنا تلك يمكن أن نخطئ وأن نرتكب حماقات وحتى تجاوزات "أخلاقية" حين نسيء التعبير وحين لا نحسن مخاطبة غيرنا عند الغضب وعند الاختلاف، رغم ثراء لغتنا وعراقة حضارتنا. لقد تابعنا منذ 2011 فائضا من الحرية بلغ درجة الفوضى والتهور بل وحتى سوء الأدب، ولم يكن ذلك مخيفا طالما أن "الحرية هي أول مربٍ للأمم وهي تخلق كل مرب عداها، وما من مرب يسد مسدّها" (مصطفى فاضل باشا 1861). فالاستقامة السياسية والأخلاق المعرفية لا يفرضهما قانون ولا ترسيهما عقوبات ولا تتحققان بالوعيد والترهيب، إنما هما من مكتسبات التجربة والدربة، وهما مرحلتان من مراحل "التطهر" من مخلفات الاستبداد والخوف والحرمان.

ذاك الصمت ليس علامة جيدة في أي نظام سياسي يحترم الشعب ويعتبره معنيا بالشأن الوطني وعلى رأسه وضعية مسؤولي الدولة الصحية، خاصة حين يطول غيابهم ولا يَعلمون ولا يُعلمون

لم يكن غريبا بعد عشرية الجرأة والتهور والصراحة والوضوح أن يعبّر طيف واسع من التونسيين عن رغبتهم في معرفة سبب غياب رئيس دولتهم منذ مساء 22 آذار/ مارس 2023 إلى صبيحة 3 نيسان/ أبريل الجاري، دون إشارة رسمية لذاك الغياب، حتى دون ذكر تفاصيل. ذاك الصمت ليس علامة جيدة في أي نظام سياسي يحترم الشعب ويعتبره معنيا بالشأن الوطني وعلى رأسه وضعية مسؤولي الدولة الصحية، خاصة حين يطول غيابهم ولا يَعلمون ولا يُعلمون.

كان ثمة خطأ اتصالي من جهة السلطة، بل كان خطيئة حين نفهم صمتها على أنه يتجاوز حالة الخطأ والتقصير ليكون عدم تقدير للرأي العام وعدم اهتمام بتساؤلاته وحيرته التي استمرت أياما.

ذاك التقصير أو الخطأ أو الخطيئة كانوا منطلقا للاستنباط والتأويل، فكانت الروايات والإشاعات تتسع وتتزايد حتى تحولت إلى ما يشبه رأيا عاما حاول بعض رجال القانون والسياسة والإعلام التفاعل معه، سواء بتقديم قراءات قانونية في وضعيات "الشغور"، في غياب محكمة دستورية، أو بتقديم "معلومات طبية" عن حالة الرئيس الغائب.

بعض تلك التفاعلات كانت في شكل إجابات تحاول أن تكون علمية مجردة، وبعضها كان مزجا بين "المعلومة" والاستنتاج السياسي بما فيه من حديث عن "بدائل"، وبعضها ربما كان "أمنيات".

الشوائب "الأخلاقية" التي رافقت هذا "الخوض" في صحة الرئيس الغائب لا يمكن تبريره ولا تبرير أي شائبة أخلاقية سابقة أو راهنة أو لاحقة في العمل السياسي وفي أي عمل، ولكن علينا أن نقرأ ذلك ضمن أزمة سياسية لم تستو بعد على ميزان العقل ولم تعالج بمعيار الأخلاق، إنما ظلت تغلي كما مرجل على أتون الحقد والكراهية والتحريض والفتنة والنكاية والتشفي، ولكأننا تحولنا جميعا -إلا قليلا- إلى كائنات غير سوية نفسيا وذهنيا.

علينا أن نقرأ ذلك ضمن أزمة سياسية لم تستو بعد على ميزان العقل ولم تعالج بمعيار الأخلاق، إنما ظلت تغلي كما مرجل على أتون الحقد والكراهية والتحريض والفتنة والنكاية والتشفي، ولكأننا تحولنا جميعا -إلا قليلا- إلى كائنات غير سوية نفسيا وذهنيا

قيس سعيد الذي ظهر الليلة الماضية، كان يُنتظر منه أن يطمئن التونسيين عن أمن بلادهم وعن مستقبلهم، وعن صحة رئيسهم، وكان يمكن أيضا أن يشير إلى تقصير تواصلي مع الشعب بخصوص غيبته، وسيكون لائقا جدا الاعتذار، ولكنه بدا كما لو أنه ظهر خصيصا ليغيظ خصومه السياسيين وليكشف عن ضعفهم الأخلاقي حين سارعوا إلى الحديث عن "الشغور"، مذكرا كالعادة بقاموسه الذي يصف به معارضيه.

سياسيا: قيس سعيد يعلم أن خصومه يعتبرونه منقلبا ولا يعترفون بـ"مساره" ولن يعترفوا به، وهم يقاومونه من اليوم الأول ولن يكفوا عن المقاومة إلا بإسقاطه، وهم دفعوا ويدفعون ضحايا، فهل ينتظر منهم -سياسيا- التوقف عن نقده وانتقاده؟ وهل يستغرب أنهم يتكلمون عن "شغور" محتمل يستعدون لسده بآليات قانونية ومدنية سلمية؟

الغريب هو استغراب قيس سعيد مواقف معارضيه، بل وحتى مواقف عموم المواطنين المنشغلين بشأن بلادهم ومستقبل أبنائهم.

أخلاقيا: كنا نأمل لو أن قيس سعيد منذ انتخابه بنسبة عالية في 2019 قدم صورة جيدة عن رئيس جامع لكل التونسيين؛ يتعالى عن الخصومات الحزبية والعداوات الأيديولوجية، وأن يخوض معركته ضد الفاسدين بآليات قانونية هادئة وصارمة بعيدا عن خطاب الترذيل والشتائم والتشويه وتقويض المؤسسات الدستورية والسطو على مؤسسات الدولة، والتنكيل بعائلات بطرائق عنيفة ومهينة ومسيئة لصورة البلاد.

كنا نأمل لو أن قيس سعيد استدعى أفضل ما في بلادنا من كفاءات وخبرات؛ يطلقهم كخلايا نحل تسابق الزمن في معالجة أوضاع البلاد ومشاغل الناس وانتظاراتهم في الشغل والتنمية والأمن والعدالة.

هل يحتاج مراقب دليلا ليقول بأن قيس سعيد لم يقدم مثالا جيدا لا في السياسة -حيث فشل- ولا في الأخلاق، حيث كان أكبر سبّاب وشتّام في تاريخ الحكم بل وفي تاريخ السياسة في تونس.

ما زال الزمن يسعفنا بالتدارك، حين نتحرر جميعا من كبرياء زائف ومن شعبوية تافهة ومن أحقاد قاتلة ومن عجرفة غرائزية ومن حقانية باطلة لنرمم ما نعتقد فعلا أنه "وطن" وأنها "دولة" وأنه "شعب"، حتى لا يتعامل معنا الآخرون على أننا "ملف".

twitter.com/bahriarfaoui1