لا يتوقف رمضان في
مصر عند كونه
شعيرة دينية بالنسبة للمسلمين المصريين، فقد نسج المصريون من خلال ذلك الشهر الذي
تتغير فيه الحياة، ظواهر اجتماعية أصبحت كالقوة الناعمة لمصر، فمثلما كان الفانوس
صورة لرمضان في مصر اتسعت حتى شملت العالم الإسلامي، هي كذلك "الدورة
الرمضانية"حيث يكوّن المصريون فرقهم الكروية الخاصة بهم لممارسة
كرة القدم في دوري تنافسي ينظمونه فيما بينهم، يتكون فيه الفرق من خمسة لسبع
لاعبين على الأكثر، والتي على الرغم من حداثتها إلا أنها أصبحت أحد مظاهر
الفولكلور الرمضاني في مصر.
وفقًا للتاريخ الشعبي، نستدل على تاريخ أحد الدورات والذي يعود إلى عام 1982م وهي دورة الفلكي
أشهر دورة رمضانية بمصر في محافظة الإسكندرية، ولكن يبدو أن تاريخ نشوء تلك
الثقافة يعود إلى ما هو أقدم، فتجدها تتردد في أفلام السبعينيات المصرية، ويمتلك
لاعبو الكرة من جيل الستينيات كأمثال حمادة إمام وفاروق جعفر ذكرياتهم عن الدورة الرمضانية
التي لمع نجمهم خلالها. وانتشرت ثقافة الدورة الرمضانية خارج مصر، ففي الخليج
مثلًا، تجد مفهوم الدورة الرمضانية بدء في الانتشار بسبب الجاليات المصرية
العاملة هناك التي تنظمها في رمضان. ولكن، حالها كحال كل شيء في مصر اليوم، يطال
رأس المال والاحتكار والغلاء تلك الظاهرة التي أصبحت تتضاءل لاعتبارات نحاول شرحها.
من التراب والخضرة إلى الترتان
رُكلت أول كرة في تاريخ
الدورات الرمضانية، على أرض ترابية، غالبًا، أو حديقة عامة، بكرة مصنوعة من
الجوارب الصوف، وأحيانًا كرة "ميكاسا" جاهزة. تلك الأرض التي خطط
الأهالي لها جيدًا لكي تكون صالحة للعب، فاستصلحوها قدر الإمكان وحاولوا تسويتها،
واشتروا الجير الأبيض لتخطيط الملعب ورسم حدوده، وعينوا واحدًا منهم حكمًا، وعينوا
من كبار المنطقة وأمناءها رجالًا مسئولون عن تنظيم المباريات، أما عن الجوائز،
فعبارة عن كأس من الصفيح اشتروه من أحد محلات الأدوات الرياضية وأقمصة كرة قدم.
وتلك الجوائز قد تم شرائها بواسطة مبالغ رمزية جُمعت من أفراد الفرق المشاركة
بالدورة، قد لا تتخطى المائتين جنيه، وبتلك البساطة أمكن للأهالي صناعة دوريهم
الخاص، ومنافستهم الممتعة.
إن تلك الحالة تعبر عن حق تم استلابه مؤخرًا من الشارع
المصري، وهو الحق في الحيز والفضاء العام، أو "الحق في المدينة" كما
أسماه ديفيد هارفي في كتابه "مدن متمردة" حيث يرى أن لكل مجتمع الحق في
تشكيل المدينة كمعبر عن هويته وجمعيته في النضال ضد الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية،
ومن هذا المنطلق، شكلت الدورة الرمضانية دومًا حالة احتجاج على عالم صناعة كرة
القدم، بما فيه من حقوق للبث والإعلان وعقود اللاعبين واشتراكات باهظة الثمن
وجوائز بالملايين، فالدورة الرمضانية تُقدم نفسها على أساس كونها الحالة الفطرية
لكرة القدم، ولاعبيها، والقدرة على النفاذ إلى مساحات لتنفيذها يرتبط بالعدالة
البيئية والاجتماعية، ويعني هذا مدى عمومية ومجانية المساحات المفتوحة التي يمكن
استخدامها كفضاء عام لممارسة الأنشطة الرياضية والثقافية المختلفة.
كان العائق الأول الذي واجه الدورة الرمضانية في مصر
مؤخرًا، خصوصًا منذ صعود النظام الحالي إلى السلطة، هي عملية الحضرنة والتطوير
التي تشهدها المناطق التي تعد شعبية أو عشوائية في مصر، وتطوير الحدائق العامة
كذلك، فبينما كانت تلك الحدائق وفضاءات تلك الأحياء تشكل فناءًا خلفيًا للعب كرة
القدم وتنظيم الدورة الرمضانية، فمن الصعب الآن أن تجدها، وهنا أذكر دورة رمضانية
هي الأشهر والأكبر في حي عابدين بالقاهرة، لعبت فيها وحضرت فيها مباريات كثيرة
بينما كنت مراهقًا، ولكنها الآن غير موجودة لسبب واضح هو أنه تم خصخصة الحدائق
العامة الواسعة لقصر عابدين الرئاسي الضخم، وتحويلها إلى صالة طعام وكافيهات ضخمة،
تعبر عن النمط الاستهلاكي الذي ساد المجتمع المصري مؤخرًا. ويؤكد تقرير نشرته
"منصة العدالة الاجتماعية" تحت عنوان "المساحات الخضراء والحدائق
العامة" على تضاؤل المساحات والحدائق العامة في مصر حيث يشير إلى أن القاهرة
فقدت 225 فدانًا من مساحاتها الخضراء بين عامي 2017و2020م، وانخفضت حصة الفرد من
المساحات الخضراء في نفس الفترة من 0.87 إلى 0.74 متر مربع وهي النسب التي تبتعد
أساسًا عن النسب العالمية لحق الفرد في المساحات الخضراء، والتي ينص عليها القانون
المصري ذاته.
وشهدت حملة تجميل المدينة
تلك والارتقاء بشكلها الحضاري، تطويرًا لمراكز الشباب الرياضية في مصر وملاعبها،
حيث أصبح الكثير منها الآن يتشكل من ملاعب "ترتان" الذي يشبه نجيلة
ملاعب كرة القدم الأصلية، فانتقل لعب الدورة الرمضانية إلى الملعب الترتاني داخل
مركز الشباب، ولكنه لم ينتقل بكل لاعبوها، فمراكز الشباب على الرغم من كونها
"حكومية" مدعومة، إلا أنها تنظم دوراتها الرمضانية بالأموال، بأسعار
تدعي أنها رمزية كأسعار تنظيمها الأهلي، ففي نادي مثل مركز شباب الدرب الأحمر، بلغ
رسوم اشتراك الفريق الذي يتكون من خمسة أعضاء 1500 جنيهًا، أي ما يعادل 300 جنيهًا
للفرد الواحد في الفريق، فمن خلال تطوير المدينة وتطوير مراكز الشباب، طُرد
الأهالي من حدائقهم ومساحاتهم العامة إلى مراكز الشباب الحكومية بدعوى أنها أماكن
أفضل وأكثر رياضية، وهي بدورها التي تأخذ منهم أموالًا لممارسة نشاطهم السنوي،
بدلًا من أن ترعاهم وتنمي تلك الظاهرة.
مكاسب سياسية ومالية
ولأهمية الدورة الرمضانية، والكرة
المصرية للشعب المصري، كانت النتيجة أن يتنبه الساسة ورجال الأموال إلى تلك
الدجاجة التي يمكن أن تبيض ذهبًا.
ففي السياسة، يستغل حزب النظام "مستقبل وطن"
مؤخرًا الدورة الرمضانية ليقوم بتنظيمها على مستوى الجمهورية كدعاية له، ولتوجيهات
الرئيس السيسي في مجال كرة القدم والذي ظهر في برنامج "كابيتانو مصر"
الذي أطلق مع مطلع العام 2023م، ولكن من المعلوم أن برامج من ذلك النوع، والدورات
الرمضانية، تُدشن تحت مانيفستو عظيم من الحزب يدعي فيها اكتشافه للمواهب على مستوى
الجمهورية وتصديرهم للارتقاء بمستوى الكرة في مصر، ولا يعدو الأمر في النهاية كونه
أكثر من أحداث تنُظم لاستجلاب الرعاة والبث التليفزيوني والملايين من الجنيهات
التي يتم إعادة تدويرها بين رجالات السلطة والأعمال دون أن يفيض منها شيء إلى جيوب
هؤلاء الذين يدفعون من أجل أن يلعبوا.
وقد شهدت الدورة الرمضانية دخول المال للاستيلاء والقفز
على ذلك الاختراع الأهلي، فتبرز شركة "سيتي كلوب" التابعة لشركة
"ستادات" المخابراتية التي دخلت مجال الاستثمار الرياضي مؤخرًا، كأحد
مشاريع "ادفع لتلعب" وشركة سيتي كلوب تمتلك 16 فرعًا في 15 محافظة في
الجمهورية، وإذا اعتبرناها ناديًا اجتماعيًا يستهدف الأغنياء من الأساس، فلا
يمكننا إذن أن نحتج على استثمار الدورة الرمضانية، ولكن في الواقع، تؤكد شركة سيتي
كلوب على أن لها دورًا اجتماعيًا شاملًا للارتقاء بالرياضة في مصر كلها بشكل عام،
لذلك هي تقدم تسهيلات لغير الأعضاء بالنادي بتنظيم دوراتهم ومنحها أراضيها للعب
عليها، ولكن إذا ألقينا نظرة على أسعار الدورة في موقعها الرسمي، ستتحطم كل تلك
الدعاوي عن الدور الاجتماعي للشركة. فنرى أن قيمة اشتراك الدورة الرمضانية لفريق
من غير الأعضاء تصل إلى 2500 جنيهًا مصريًا، وهو رقم باهظ جدًا حتى تقسيمه على 5
أفراد مثلًا.
ولكن رغم تلك الصورة المظلمة، لا زالت بعض الدورات الأهلية
قادرة على المقاومة، بل وتحاول التطور، فرغم أنها لا تزال تُلعب على أراض ترابية
كدورة المنوفية التي انتشرت صورها على السوشيال ميديا مؤخرًا، إلا أنها حاولت في
حدود الممكن أن تواكب كرة القدم تقنيًا وتحاول إدخال تقنية Var وبعض اللاعبون الأفارقة للتحسين من مستوى
المنافسة.