بين العيدين!

العيد الاوّل خارج السجون وفي يومه الأوّل، فهو كما هو معروف فلسطينيّا يبدأ مع بزوغ فجر هذا اليوم وشعشعة الفرح مع تكبيرات المساجد التي تذهب بنا إلى صلاة العيد في ساحة عامة أو في المسجد، نعانق الناس ونرى عالما جديدا قد اكتسى بلباس العيد الجميل، ثم لنطير مسرعين إلى حيث تناول الإفطار مع الأهل من أمهات وآباء وزوجات وأبناء ومشاركتهم فرحة العيد وتوزيع العيديّات والحلويات وكلّ المسرّات، ثم الانطلاق عبر جولات من الزيارات للأرحام وذوي القربى، إلى أن تصل الأصدقاء المقرّبين، فيحملنا العيد على أجنحته لينشر الفرحة في قلوب من نحبه ويحبّنا بأجواء تريحنا من عناء الدنيا وما فيها من كدّ وكرب ومعاناة وتعب.

أما العيد الثاني خلف القضبان فهو مختلف، الصلاة في فورة السجن في ملابس السجن وتحت حراب استخبارات السجن التي ترقب كل حركة وسكنة، تراقب خطيب العيد وتعدّ أنفاسه، رغم أنه جرت العادة أن يعبّر الخطيب عن مكنوناته الثورية غير آبه بتلك الرقابة التي تريد أن تحرف البوصلة. يشحن الخطيب رفاقه بكلماته الناريّة الملتهبة ويحاول أن يضخّ في الصدور ما يسكّن فؤادها، ويجعلها تخرج من حدود ذاتها لتحلّق عاليا في سماء قضيّتها، يعزّز الثقة ويسمو بالروح ويرفع من معاني الصبر والرضى والتوكّل، وتفويض الأمر إلى من بيده الملك ومقادير الأمور.

بعد الصلاة يقف الأسرى الوقفة المعروف بـ"على الداير"، أي على محيط الساعة ليعانق كلّ من الأسرى الآخر بطريقة منتظمة جميلة، وقد ينشد الأسرى نشيدا محبّبا لهم بصورة جماعية إن تسنّى لهم ذلك. يتبع ذلك الدخول على الغرف، في الغرفة يعانق كل منهم الآخر ثم يلوي إلى برشه الكئيب ليعمل زيارة لألبوم صوره فيقلّب الصور وكأنه يمارس طقوس العيد، يتخيّل نفسه أنه يعانق أهله فردا فردا، يعيّد عليهم، ويحاول قمع دموعه وعدم ظهوره أمام رفاقه بالضعف والحزن أبدا، يحاول بعض أصحاب النكتة إلقاء نكاتهم وكأنه يخرج من المولد بلا ألم وأنّى له ذلك؟

لا تغيير على طعام الفطور صبيحة يوم العيد، الفول أو البيضة بالتناوب يوما بعد يوم لا تغيير ولا تبديل.

ثم في النهار هناك ما يتاح للأسرى وهو زيارات الغرف فيتبادلون الزيارات وكلّ منهم يتخيّل نفسه بأنه يزور بذلك رحمه.

بشقّ الأنفس تنقضي ساعات العيد وترحل بذكرياتها وشجونها وآلامها وآهاتها المكبوتة، هناك من يغلق على نفسه برشه بستارة تلفّه ويعالج جروح نفسه بنفسه بطريقة اعتادها منذ عيده الأوّل في السجن إلى حيث العيد الأخير. والأخير هذه تبلغ عند أحدهم مثل نائل البرغوثي خمسة وثمانين عيدا (بينما كاتب هذه الآلام لم يقض سوى ثمانية وعشرين عيدا). وهناك من يتاح له اتصالا عبر جوّال مهرّب لدقائق معدودة يصل فيها أهله؛ وقلبه يكاد يقفز من صدره بما يعصف فيه من مشاعر مضطربة حانية تارة وصاخبة تارة أخرى.

لو كنت خطيبا للعيد لخطبت عن كيف يمرّ العيد على أسرانا؟

الحرية لأسرانا ليس أمنية ولا حتى دعاء، إذ أن الدعاء أوّلا ولكن أبدا لا يمكن أن يكون الدعاء أوّلا وأخيرا.

هل لنا أن تخيّل كيف قضى نائل البرغوثي عيده الخامس والثمانين في السجن؟؟

شادي الطوس عيده الثمانين؟

سمير أبو نعمة عيده الثامن والسبعين؟

نضال زلوم عيده الستين؟

خضر عدنان عيده الأوّل من حبسته الثامنة، في يومه الثامن والسبعين من الإضراب المفتوح وهو إلى الشهادة أقرب من هذه الفانية؟

هذه أمثلة والقائمة طويلة.

كيف قضى أهالي الأسرى عيدهم وقلوبهم تنبض بقوّة لتحاول التقاط موجات قلوب أبنائهم القابعين هناك بعيدا خلف قضبان القهر والموت البطيء.
للعيد في السجن ألوان مختلفة تماما، لا تجد فيه إلا الأسود والحالك والقاتم إلا ما يبدّد هذه الظلمات من إيمانيّات واستمساك بعدالة القضيّة وثقة عالية بالله، وبما في النفوس من عنفوان الحرية وطبيعة نفوس كريمة عزيزة أبيّة.