لا يخفى على كل متابع جيد لأحوال
المصريين، أو محب لهم يعاني معهم ولو
معنويا، أنه منذ بعد 3 تموز/ يوليو 2013م وجملة "ولا يوم من أيامك يا أبو
علاء (أي الراحل الرئيس حسني
مبارك)"؛ صارت تتردد وتزداد في الشوارع والطرقات،
تارة همسا ومرات بصوت يقارب الصراخ متى أمن قائلوها العسس والمخبرين. لكن الأمور
في مصر اتسعت، واتسع الخرق على الراقع حتى ليكاد يبتلعه، فلم يعد تمني عودة أبي
علاء يردده البسطاء الذين ضاقت الأرض بهم، ولا يجدون ما يسد الرمق أو يسترهم إلا
بصعوبة بالغة، في ظل
أزمات تمسك بأيدي بعضها بعضا، ولعل من آخرها علف الدواجن التي
اضطر مربوها في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لإعدام عشرات الآلاف منها نكاية
في النظام الذي يصادر الأعلاف. وللإفراج عن الأعلاف تدخل الجنرال الحاكم بنفسه
بتوجيهات "مدّعاة" وتحرك رئيس الوزراء باجتماع هزلي، في ظل سلسلة أزمات
مشابهة لا تبدو لها نهاية صار الشعب يناضل من أجل البقاء على قيد الحياة لا لتغيير
النظام، بل صار بعض الثوريين يرددون بشغف كلمات الندم على إرغامهم الرئيس المخلوع
الراحل حسني مبارك على التنحي، وفقا للمشهد الذي ظهر لهم على أنه واقعي في حينها.
وبين حال بسطاء المصريين وثورييهم، لا يملك المدقق في أمر وشأن الكنانة إلا
أن يسأل نفسه اليوم وأمس، وهو يرى النظام يكاد يأخذ ضرائب منهم حتى على الأنفاس،
بعدما صار يأخذ من أموالهم حتى على دفن الميت منهم، بل زاد رسوم غسيل الكلى
للمصابين بفشلها (خفف الله عنهم) مرة ونصف المرة: هل صحيح أن الذين أقصوا مبارك عن
السلطة أخطأوا؟!
يبدو السؤال منطقيا، بل يكاد تكون عودة أيام حكم مبارك أمنية لمصريين كثر،
إذ أصبح مَنْ ثاروا عليه بالأمس عليه أملا مشتهى اليوم، ومع إيماننا الوثيق بأن
نهايةً ما تخبئها الأقدار للكنانة، ومع تسليمنا بأن للأمر زوايا أخرى نتناولها
مستقبلا غير التي نذكرها الآن، وأن الأقدار تدخر أحداثا أكثر مما تعلن فيما يخص
حكم الجنرال الحالي، وأنه من المحال أن تبقى الأمور على ما هي عليه اليوم من ضيق
وكبت وكتم حريات بل خنق للمصريين وتأزيم للأفق، إلا أن المَخرج ليس سهلا هيّنا؛
كما يحلو القول لبعض الحالمين والمتاجرين بالآلام التغني، فالحقيقة أن هذا النظام
زائل لكن معه وقت يقدره الله، وقد يمتد لسنوات أخرى. كما أنه من الحقائق أن أي
نظام مصري مقبل أيّا كان سيكون أفضل من هذا النظام، وإن استمر النظام العسكري لسنوات
يعلمها الله بعد الجنرال، وأن أمل تغيير هذا النظام لآخر يبدأ عهده بإعادة اللُّحمة
والنسيج الاجتماعي لمصر يستحق الحياة.
لكن مقولة أن نظام مبارك أفضل من عبد الفتاح
السيسي تحتاج تدقيقا أكثر من مجرد
إطلاقها على عواهنها، فإن مبارك هو نفسه مَنْ أغرق مصر في الفساد والإفساد لقرابة
30 عاما، حتى أنه لم يكتفِ بتجريف التربة الزراعية وتسميدها بمسببات السرطان ما
أمكنه، فضلا عن تولية الفَسَدة والكَذَبَة وعديمي الأخلاق وإبعاد كل نقي السريرة
أو صاحب ضمير ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فأفسد البلاد، وإنما تمادى في إزهاق
الضمائر من داخل العباد وإماتة الخبرات والقدرات السياسية إلا للنخبة المقربة التي
تسانده وتؤازره شخصيا، إذ كان متواضع المواهب يقارب أن يكون معدوم القدرات النزيهة،
فحرص على ألَّا يجد في العباد أفضل منه وأن تظل البلاد في حاجة ماسة إليه بشكل
خاص.
هذه أولى سيئات مبارك، ولذلك لما تمت تنحيته أخطأ خالعوه خطأ كبيرا كلّف
الجميع غاليا جدا، ومنه خرجت هذه المقولة التي صار بعضهم يرددها منذ فترة، فلم يكن
الخطأ والخطيئة في الحقيقة في تنحية مبارك (ولهذا الأمر تفصيلة أبرز أخيرة مقبلة
في السطور التالية)، وإنما كانت الجناية الأخطر في عدم إجادة التصرف بعد تنحيته.
فلم تكن لدى نخبة النخب الثائرة المفترضة وبدرجات متقاربة خبرة كافية للتصرف في
امور دولة، ولو أحسنوا إدارتها والتفكير في تنقية دولابها لأنصفوا ومنعوا عن
أنفسهم مجازر ومآسي لم يكن شرفاؤهم يستحقونها، أما غير المخلصين فللأسف فكثفوا
الوبال على الجميع، واستفادوا وآثروا أنفسهم بما قبّح
الثورة نفسها، خاصة أنهم
"فعلوها" تحت اسم الوطنية تارة والدين أخرى.. والاثنان من هذا وذاك بريئان.
يبقى أنه لم يكن للمخلصين من نخب المصريين أن يزيلوا مبارك ما لم يكن هذا
في ظل سياق من رضا خارجي، ولا ننسى في هذا السياق (على سبيل المثال) مقولة
الأكاديمي، مدير مكتب المخلوع للمعلومات والمدير السابق لمكتبة الإسكندرية، مصطفى الفقي:
لا يمكن أن يحكم مصر رئيس لا ترضى عنه الولايات المتحدة وإسرائيل.
إننا نرى بوضوح أن التراخي والتخاذل اللذين بدآ منذ محاولة الثورة في 25 يناير
2011م واستمرا لليوم من جانب الأحياء الأحرار من مخلصي الثوريين؛ هما السبب في
وضعنا الحالي في مصر وحواليها، وما أصاب الأمة كلها من وراء وجراء هذا، ومن العيب
المهين إلحاق الأمر بتنحية مبارك، فإن جازت الكلمات من العامة لتشابه الأمور عليهم
مع بالغ الضرر الذين يعانونه، فلا تجوز بحال من الأحوال من ثوريين مناط بهم
الاستمرار أو محاولته ما استطاعوا وصولا لتغيير الأحوال.. وكفى تعليقا للمآسي على
شمّاعات غيرنا حتى لو كان الأخيرون هم أنفسنا لكن في أوقات سابقة!