قضايا وآراء

بوصلة الوضع الإنساني في صراع السودان

سارعت العديد من الدول لإجلاء رعاياها والمقيمين فيها من السودان- الأناضول
حين تهب ريح الصراع على أي بلد عربي فإن الفواتير الباهظة يدفعها المدنيون دون غيرهم؛ هؤلاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يحدث. وللأسف فإن هؤلاء لا يأبه لهم أحد في بداية اشتعال أوار المعارك. فجل الأخبار تركز على الأبعاد السياسية والعسكرية والحروب الإعلامية المتبادلة، وهو ما يحدث في السودان حاليا حيث يتصدر المشهد تصريحات الجنرالات وأخبار المعارك وتأتي أخبار المعاناة الإنسانية في المرتبة الثانية.

تأتي أخبار المدنيين في أوقات الصراع لتحول معاناتهم إلى أرقام وإحصاءات، ولا تكتسب أهمية تذكر سوى بتأثيرها السياسي في مشهد الأحداث المتلاحقة. وهذا من عيوب التغطيات الإخبارية الحديثة التي لم يتم علاجها حتى الآن.

وقبل سنوات حضرتُ مؤتمرا عن الإعلام العربي في جامعة كامبريدج البريطانية، وقدم وزير الثقافة الفلسطيني السابق الدكتور إيهاب بسيسو ورقة هامة عن اعتياد المشاهد التلفزيوني لمشاهد الانتهاكات في فلسطين مما يجعله يألفها ويفقد القدرة على التفاعل معها؛ اللهم إذا حدث انتهاكات أفظع، وهو ما يجعل تحرك وجدان الرأي العام رهينة بزيادة جرعة العنف، الأمر الذي حدث في سوريا واليمن ويتكرر اليوم في السودان.

تأتي أخبار المدنيين في أوقات الصراع لتحول معاناتهم إلى أرقام وإحصاءات، ولا تكتسب أهمية تذكر سوى بتأثيرها السياسي في مشهد الأحداث المتلاحقة. وهذا من عيوب التغطيات الإخبارية الحديثة التي لم يتم علاجها حتى الآن
ولتوضيح المسألة علينا أن نعالج مشكلة الوضع الإنساني في السودان من زاويتين؛ إحداهما سياسية والأخرى إعلامية.

أولا من الناحية السياسية: لا شك أن الوضع الإنساني محرك مهم في المشهد السياسي في السودان شئنا أم أبينا. ولعل أبرز قضية في هذه الأجندة هي أجندة اللاجئين إلى دول أوروبا، فسرعان ما تحولت تصريحات وزيرة الداخلية البريطانية عن الوضع الإنساني في السودان والاهتمام فقط بمن يحملون الجنسية البريطانية هناك إلى مادة سجال، وتم استدعاء دور الأطباء السودانيين في بريطانيا خلال جائحة كوفيد 19، وكيف أن منهم من فقد حياته أثناء قيامه بواجبه الإنساني، وعلت أصوات تطالب بمنح حق اللجوء للسودانيين الفارين من لهب المعارك.

وليس لدي شك في أن دول الاتحاد الأوروبي أيضا تقوم بتقييم دوري للوضع في السودان من هذه الزاوية ربما أكثر من غيرها من الزوايا، لتأثيرها المباشر على صناديق الاقتراع والعنصرية المتصاعدة تجاه الأجانب والمهاجرين.

ويعد تفاقم الوضع الإنساني أحد مبررات الضغط الدولي على طرفي الصراع أثناء جولات المباحثات الماراثونية بين كثير من العواصم والقيادات العسكرية في السودان. بالإضافة لذلك، ستجد كثيرا من الدول المجاورة للسودان نفسها في موقف المتدخل مباشرة في الحرب شاءت أم أبت، بسبب تدفق السودانيين نحو أراضيها بسبب صعوبة الوضع الإنساني.
من المهم أن نتعلم دورس من الحروب التي مرت في العالم العربي خلال السنوات الماضية وأن تأخذ البوصلة الإنساني حظها من الاهتمام سواء السياسي أو الإعلام، وإن لم يكن هذا من الناحية الأخلاقية والدينية فليس أقل من أن يكون من ناحية المصالح لأن هذا المشهد الإنساني الذي نراه في السودان الآن سيجبر كل الأطراف المتصارعة والراعية لها، وحتى دول الجوار وكل من له صلة على دفع فواتيره

ثانيا من الناحية الإعلامية: تغيب القصة الإنسانية عن تغطية الأحداث في السودان رغم تعدد المنصات الإخبارية ووجود تدفقات إخبارية هائلة من مدن سودانية مختلفة. إذ تركز معظم التغطيات على المعارك الدائرة هناك وكأنها حرب تدور في صحراء قاحلة وليس وسط المساكن وبين المدنيين، وهذا يعزز من مركزية الخبر العسكري والسياسي على الخبر الإنساني ويحول هذه المأساة المفجعة لما يشبه مباراة كرة القدم يتابع فيها المشاهدون كل يوم مَن مِن الجنرالات أحرز أهدافا أكثر في مرمى الآخر، وليس رصد لانعكاس هذه المأساة على حياة الناس اليومية.

من المهم أن نتعلم دورسا من الحروب التي مرت في العالم العربي خلال السنوات الماضية وأن تأخذ البوصلة الإنساني حظها من الاهتمام سواء السياسي أو الإعلام، وإن لم يكن هذا من الناحية الأخلاقية والدينية فليس أقل من أن يكون من ناحية المصالح لأن هذا المشهد الإنساني الذي نراه في السودان الآن سيجبر كل الأطراف المتصارعة والراعية لها، وحتى دول الجوار وكل من له صلة على دفع فواتيره إن عاجلا أو آجلا.

twitter.com/HanyBeshr