سياسة عربية

كيف حافظ فلسطينيو 48 على هويتهم الوطنية طوال 75 عاما؟

الوعي هو أهم سلاح يحمله فلسطينيو الداخل المحتل في وجه "إسرائيل"- جيتي
كلما حل أيار من كل عام بدأت تتجه الأنظار إلى الداخل الفلسطيني المحتل، ذاك الذي كان جوهر الأحداث عام 1948 حين هاجمت العصابات الصهيونية القرى الفلسطينية الوادعة لإحلال جماعات المستوطنين مكانهم.

أعداد من الفلسطينيين تمكنت من البقاء في أرضها دون تهجير، وهؤلاء شكلوا نواة للمجتمع العربي الفلسطيني داخل كيان الاحتلال، والآن هم يعيشون على خط المواجهة الأول ويتعرضون لأشكال عدة من القمع المنظم بهدف سلخهم عن هويتهم الفلسطينية.

ولكن الفلسطينيين هناك ما زالوا يتمسكون بهذه الهوية، لم تفلح الانتهاكات بحقهم من قتلٍ واعتقالات وملاحقة وتنكيل وهدم منازلهم ومصادرة أراضيهم وتضييق الخناق عليهم؛ لم تنجح في تركيعهم.

ولعل "هبة الكرامة" التي اندلعت قبل عامين فقط؛ شكلت صفعة للمشروع الإسرائيلي المستمر بمحاولة دمج الفلسطينيين في الداخل مع المجتمع الصهيوني، فما هي الأمور التي ساعدتهم على الحفاظ على هويتهم وعدم التفريط بها؟!

الوعي والعمل

يعتبر الكثير من المراقبين والمحللين أن الوعي هو أهم سلاح يحمله فلسطينيو الداخل المحتل في وجه "إسرائيل" التي حاولت كيّه مرات عديدة سواء بالقوة الناعمة أو المفرطة، وإلى جانب ذلك كانت هناك أسلحة أخرى معنوية.

الكاتب والمحلل السياسي توفيق محمد قال لـ"عربي21" إن أهل الداخل الفلسطيني رغم كافة الممارسات التي تعرضوا لها من اضطهاد ومصادرة أراضيهم والتضييق عليهم في البناء وهدم المنازل وغيرها من الممارسات القمعية على يد دولة الاحتلال، استطاعوا المحافظة على ارتباطهم مع أرضهم عبر العديد من الوسائل الثقافية والوطنية وعبر مؤسسات المجتمع المدني كالجمعيات التي كانت تعنى بالحفاظ على التراث والأوقاف والمقدسات.

الحركة الإسلامية في الداخل المحتل بقيادة الشيخ رائد صلاح كانت قبل حظرها عام 2015 رائدة في هذا المجال، فكان لديها العديد من الجمعيات مثل مؤسسة الأقصى للوقف والتراث المحظورة الآن؛ ولكنها كانت تحمل بصمات كبيرة جدا في الحفاظ على الأوقاف والمقدسات.

الحفاظ على المقدسات بحسب محمد يصب بلا شك في الحفاظ على هوية أهل الداخل الفلسطيني، بحيث حين يتم الحفاظ على هذا الوقف من مسجد أو مقبرة أو مقام أو غير ذلك من مقدسات، لا يُحفظ فقط الحجر وإنما التاريخ والهوية.

ويوضح أنه ما تزال هناك العديد من الجمعيات الأخرى مثل جمعية المهجرين التي تحيي كل عام ذكرى النكبة وغيرها من الجمعيات التي تعمل على تثبيت الهوية لأهل الداخل الفلسطيني، فبقي الأهل مرتبطين بهويتهم وأرضهم.

وعلى صعيد آخر يحرص الفلسطينيون في الأراضي المحتلة على تنظيم زيارات متواصلة لكل قرية تم تهجيرها عام 1948، بحيث يقوم أحفاد وأبناء من هجروا بالزيارة لها، كقرية اللجون التي كانت لها مسيرة العودة الأخيرة، والتي لها ارتباط مع أهالي مدينة أم الفحم كون عدد كبير منهم ينحدر منها.

ويبين الكاتب بأنه بشكل أسبوعي متواصل يزور الفلسطينيون قرية اللجون، بينما قسم منهم يزورون بلدات أخرى جاءوا منها بالأصل مثل زمرين وغيرها، لافتا إلى أن هذا التواصل ورثه الأحفاد عن الأجداد الذين ما زالوا يتواصلون مع أرضهم وبيوتهم، وهذا يعمل على ترسيخ الهوية الفلسطينية العربية والإسلامية لدى فلسطينيي الداخل المحتل.

الجماهير

شكلت الجماهير الفلسطينية في الداخل قوة ضاغطة على الاحتلال في العديد من الأحداث، ورغم محاولات الأخير ضبط إيقاعهم بما يتناغم مع سياساته التهويدية، إلا أن الكثير من المخططات تم إفشالها بقوة الجماهير.

الكاتب السياسي أمير مخول قال إن المرحلة الراهنة على وجه التحديد تشهد انتكاسةً خطيرةً للغاية في هيبة العمل السياسي العربي الفلسطيني في الداخل، والهيبة هي شأن مهم لأن الوزن المعنوي للسلوك السياسي هو مركّب ضروري وأساسي في المواجهة مع دولة تسعى بكل منظوماتها إلى تخريب وعي فلسطينيي الداخل وهدم ما راكمته جماهير شعبهم من إنجازات في طريقها الكفاحي على مدار سبعة عقود ونصف.

يوضح أيضا أن الاحتلال عمد إلى إعادة هندسة "العربي الجيد" والمَرْضيّ عنه صهيونياً، بحلّة تلائم العام 2023, كل ذلك لخدمة مخططات هذه الدولة العدائية تجاه شعب فلسطين.

العصا السحرية التي يمكن أن تغير كل شيء؛ تمتلكها فقط جماهير الشعب مجتمعة وقد أعادت الاعتبار لإرادتها الكفاحية، وكي تتمكن من ذلك بحسب الكاتب؛ فإنّ الطريق ليس سهلاً لكنه ممكن، وهو بالأساس حراكي تنظيمي وخارج فقاعات العالم الافتراضي التي باتت مساحات واسعة منها تشكّل منصّة للإحباط.

ويرى مخول أن الحركة الوطنية بمجمل تياراتها باتت مهدَّدة، وفي وضع حرج وخطير، لكنه استدرك بأنه لا مكان لليأس، بل الحاجة حقيقية إلى تحرّك للإنقاذ الوطني.

وأضاف: "العدوان الحالي على الشعب الفلسطيني هو استمرار لنفس المشاريع السياسية والاستراتيجية القائمة الساعية لتجاوز جوهر القضية الفلسطينية من خلال البعد العربي الإقليمي والسلام الاقتصادي، ولتعميق تجزئة الشعب وإضعاف التيارات الوطنية، بالإضافة إلى النيل الجوهري من بنية فائض القوة غير المجازة لدى فلسطينيي الـ 48 وفقاً للاعتبارات الصهيونية الحاكمة".

العدوان على فلسطينيي الـ 48 والقدس ما يزال مستمراً يوميا، بل يزداد عدوانية، ويشرف عليه مباشرة جهاز الأمن العام (الشاباك)، ولكن ما جرى عام 2021 من أشكال متعددة لهبّة الكرامة في الداخل الفلسطيني المحتل كان لافتا.

في هذا الإطار يعتبر مخول أن ما يجري بين فلسطينيي الـ48، وبالذات تصدُّر الأجيال الصاعدة المشهد ودورها غير المسبوق، هو ليس مسألة هوية، فهذه المسألة على الرغم من أهميتها إلا أنها لم تكن هي ما يميز الصدام، بل إن ما حدث ويحدث هو مسألة قضية، أي الدفع بهذا الجزء من الشعب الفلسطيني إلى صدارة المواجهة بكل ما في ذلك من وعي متصاعد، ومن نضوج، ومن تحديات أيضاً.

وتابع: "لم يفكر الناس في الشيخ جرّاح ضمن تفكير الهوية، ولا في اللد ضمن تفكير الهوية، بل من مفهوم ومنظور القضية الواحدة والشعب الواحد، ودولة الاحتلال والعنصرية والاستعمار الاستيطاني الواحدة في كل فلسطين التاريخية. مثل هذا التحول لا يطرح حلولاً وليس مطلوباً منه ذلك، بل يخلق حالة نوعية جديدة أقرب إلى "حاصر حصارك..."".