قضايا وآراء

لن نحيى الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة بالبكائيات بل سنحييها بقوة المقاومة

قصف غزة بالتزامن مع ذكرى النكبة- جيتي
تهل علينا الذكري الخامسة والسبعين لنكبة العرب والمسلمين أجمعين وليست نكبة فلسطين فحسب، انها نكبة الأمة الإسلامية كلها التي بدأت عام 1948 وتتوالى تبعاتها حتى يومنا هذا.

نتذكر ذلك اليوم، الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، الذي انتزع فيه قلب الأمة العربية واغتُصبت فيه أرضُنا في فلسطين أمام أعين العالم أجمع؛ بمباركة الدول الاستعمارية التي سارعت إلى الاعتراف بهذا الكيان الغاصب الذي زُرع في أرضنا العربية. وكان أول المباركين والمعترفين الاتحادَ السوفييتي، تلته الولايات الأمريكية المتحدة، وليس العكس كما يظن الكثيرون. لقد تكالب الشرق والغرب على طعن الأمة في ظهرها، القريب منها قبل الغريب، فلولا تآمر العرب لما استطاع الغرب تنفيذ مؤامرته في فلسطين العربية..

لم يكن زرع هذا الكيان الصهيوني وليد ذلك اليوم البغيض بل يعود لقرن من الزمان، منذ وعد بلفور المشؤوم، الذي أصدرته الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين العربية، وذلك في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917، وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وحققت لهم هذا الوعد بالتضافر مع باقي الدول الاستعمارية الأخرى يوم الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948.

ومنذ ذلك التاريخ يعيش الفلسطينيون في مسلسل لا ينتهي من المعاناة والعذاب، وسرقة المزيد من أراضي فلسطين التاريخية من قِبل العدو الصهيوني الذي استباح دماءهم وأعراضهم وأموالهم، ولم يتوقف نضال الفلسطينيين ضده طيلة الأعوام الخمسة والسبعين الماضية، ولم يتوقف تآمر الحكام العرب ضد كفاح الشعب الفلسطيني، ولم ينصفه المجتمع الدولي ولم يُرجع له حقوقه المسلوبة ولا أرضه المغتصبة، فالقوى الكبرى وعلى رأسها أمريكا تدعم وتساند الكيان الصهيوني والحكام العرب موالون لها وحراساً لحدوده..

لقد تاجر الحكام العرب كلهم بلا استثناء بالقضية الفلسطينية أمام شعوبهم المتعلقة بفلسطين منذ عهد جمال عبد الناصر حتى الآن، ليثبّتوا أركان حكمهم ودعائم ملكهم، ولكن ما كان يجرى وراء الكواليس شيء آخر مختلف تماماً، ظهر للعلن في اتفاقيات سلام أُبرمت مع العدو الصهيوني، فوقّعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية "أوسلو" في الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1993 مع العدو الصهيوني بعد الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، التي أفزعت الصهاينة وهزت الأرض تحت كيانهم، فأسرعوا لعقد هذه الاتفاقية، والتي بموجبها تم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وأسقطت المنظمة بند الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر من ميثاقها القومي، مقابل سلطة وهميّة لم تكن أكثر من تنسيق أمني بينها وبين الكيان الصهيوني ووعْدٍ بإقامة دولة لم ترَ النور، بل رأت مزيداً من سرقة أراضي تلك الدولة المزعومة وإقامة المستعمرات (المستوطنات) عليها، حتى تقلصت مساحة الأراضي المتبقية للفلسطينيين إلى أقل من عشرين في المائة من أرض فلسطين التاريخية!

كما أدت اتفاقية أوسلو لمزيد من القتل والاعتقالات لأبناء الشعب الفلسطيني المناضل تحت ذريعة التنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال، فكانت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 2000 التي أعادت روح المقاومة للشعب الفلسطيني؛ برعاية الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي عاد من أمريكا محبطاً بعد اجتماع كامب ديفيد مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني إيهود باراك برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وتأكد لعرفات أن لا جدوى من اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني وأنها كلها كانت أوهاما سرعان ما تبخرت وطارت في الهواء بعد أن عُقدت عليها آمال عريضة بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم، آمال عاش عليها الفلسطينيون على مدار سبع سنوات، منذ اتفاقية أوسلو، فلما استيقظوا وجدوها أضغاث أحلام وأن الواقع يحتّم عليهم العودة للنضال لتحرير فلسطين، فقاد الراحل عرفات بنفسه الانتفاضة، لتبدأ مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني لم تنته بحصار عرفات وقتله بالسم عام 2004، وانسحاب العدو الصهيوني من قطاع غزة تحت وطأة المقاومة.

ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن يشن العدو الصهيوني الحروب على قطاع غزة، بمعدل مرتين في العام الواحد وأحيانا أكثر من ذلك، ويفرض حصاراً شاملاً براً وبحراً وجواً على الشعب الفلسطيني في غزة بعد فوز حماس في الانتخابات النيابية عام 2007، ولكن كل هذا لم يفتّ من عضد المقاومة ولم ينل من عزيمتها، ولم يُضعف من قوة الشعب الفلسطيني المستعد للتضحية من أجل تحرير أرضه، تحمّل أعباءً لا يمكن أن يتحملها أي شعب في العالم وعانى الكثير من أجل استقلاله وكرامته وعزته..

كانت آخر تلك الحروب، والتي لن تكون الأخيرة بالطبع، تلك التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة منذ أيام سبقت احتفاله بالعيد الماسي لاحتلال فلسطين ونشأة الكيان المغتصِب، وكأن رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو أراد أن يحتفل به بطريقته الإجرامية، فاغتال ثلاثة من قادة الجهاد في منازلهم مع زوجاتهم وأطفالهم، فيما راحت أربعون طائرة مقاتلة تواصل دك غزة وتقتل المزارعين والمدنيين الأبرياء.

وردت فصائل المقاومة بقصف صاروخي مكثف وبرشقات بالمئات، وصل مداها إلى تل أبيب وقاعدة عسكرية بجوارها، وبالقرب من مطار بن غوريون الذي شُلت حركته تماماً، فانطفأت شمعة الخامسة والسبعين سريعاً قبل أن يُطفئها نتنياهو والذي كان يتباهى بإشعالها، ظناً منه أنه بهذا العدوان سينقذ حكومته من الانهيار حتى لا ينتهي به الأمر في السجن بسبب قضايا الفساد، وكذلك احتواء المعارضة التي تؤيده في كل عدوان يشنه ضد الفلسطينيين، لكن خاب ظنه وضاع أمله في الانتصار بعدما أعلنت المقاومة أنها تحتفظ بحق المزيد من الرد في المكان والزمان المناسبين، فأوقعت الخوف والفزع في نفوس الصهاينة وجعلت قوات الاحتلال في حالة تأهب وترقب دائم، فصدرت أوامر بفتح الملاجئ، وغلق الطرق الرئيسية في مستوطنات بالقرب من غزة، وبإجلاء آلاف الصهاينة من المدن القريبة من مدينة عسقلان..

لقد فشل نتنياهو في شق صفوف المقاومة، من خلال استهداف حركة الجهاد الإسلامي لعزلها وفصلها عن قوى المقاومة الأخرى، بانتهاك سياسة "فرّق تسد"، ولكنها جاءت بنتيجة عكسية عما خطط له، وكان الرد من غرفة العمليات المشتركة والتي أدارت المعركة بحكمة وتخطيط علمي، والتفاف قوي المقاومة، بل والشعب الفلسطيني بكامله حول حركة الجهاد..

كما أثبتت المعركة فشل القبة الحديدية في التصدي للصواريخ الفلسطينية، وعلى الرغم من الفارق الهائل في القدرات العسكرية بين جيش الاحتلال وقوى المقاومة إلا أن المعركة كانت متكافئة ندياً، وأثبتت قدرة الفلسطينيين على المقاومة والنضال..

لقد فرضت المقاومة الفلسطينية معادلة استراتيجية جديدة أمام العدو الصهيوني، وأثبتت مقدرتها على إنهاكه وإسقاط مزاعمه أنه يملك قوة الردع الجبارة التي تخيف الفلسطينيين، وأنه هو وحده الذي يتحكم في زمام المبادرة، بدليل سعيه الحثيث لدي مصر للواسطة لوقف إطلاق النار ومنع صواريخ المقاومة التي تنهال على كيانه المغتصب..

لقد فشل الكيان الصهيوني في تركيع الشعب الفلسطيني في غزة كما فشل في هزيمة المقاومة ودإجبارها على الاستسلام..

ويبقى الأمل مُنعقدا على هذا الشعب العظيم، الشعب الفلسطيني الذي يُسقط كل الحسابات ويغيّر كل المعادلات بإبداعاته وابتكاراته في وسائل المقاومة والنضال، إنهم قوم لا يحملون البندقية فقط، بل يحملون معها حقهم في الأرض والعقيدة والإرادة.

هؤلاء المقاومون هم أحفاد أحفاد الفلسطينيين الذين طُردوا من أرضهم وهُجروا بعيداً عن فلسطين ولم تتكحل عيونهم برؤية فلسطين والعيش في أرضها وبين ربوعها وسهولها ووديانها وجبالها، ولكنها في قلوبهم يعيشون فيها وتعيش داخلهم، في وجدانهم وفي فكرهم، أرضهم التي لن يتخلوا عنها..

لقد سقطت مقولة القادة الصهاينة القدامى أمثال جولدا مائير التي قالت "الكبار سيموتون والصغار سينسون"، مات الكبار بعد أن سلّموا مفاتيح العودة للصغار وحمّلوهم الأمانة ورفعوا الشعلة من بعدهم، الشعب الفلسطيني شعب لا يموت ولا ينهزم.

لقد أحيت السفارة الفلسطينية الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة من المكان الذي تسبب في النكبة، في المملكة المتحدة، تحت شعار "لن ننسى.. سوف نعود".

لن نحيي الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة بالبكائيات على ضياع الأرض، بل نحييها بقوة المقاومة وتغيير قواعد الاشتباك وفرض معادلة الردع الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني.

twitter.com/amiraaboelfetou