مع اندلاع المواجهات
العسكرية الدامية في العاصمة
السودانية الخرطوم أواسط الشهر الماضي كثرت التساؤلات
عن الأدوار المحتملة لمجموعة «فاغنر» الروسية المثيرة للجدل، وما إذا كان من
الممكن أن تتدخل في القتال لصالح قوات «الدعم السريع» المتمردة.
كانت المخاوف كبيرة، فالمنظمة الروسية غير الرسمية تمتلك
خبرة عسكرية لا يستهان بها في حرب المدن وفي السيطرة على خطوط الإمداد وتجنيد المرتزقة
وكان تدخلها لصالح الجنرال محمد حمدان دقلو «
حميدتي» كفيلا بقلب موازين القوة. جعل
ذلك الجيش السوداني يكثف سيطرته على المنافذ الحدودية، وخاصة المطارات، وهي المهمة
التي كانت على الدوام صعبة في بلد شاسع الحدود ومتعدد الجوار.
روسيا الرسمية بادرت لتأكيد مساندتها للسلطة القائمة
ونأت بنفسها عن كل ما قد يفسر على أنه ميل لطرف. ظلت الشكوك مع ذلك قائمة،
فبالنسبة لكثير من المحللين، كان حميدتي مقربا لروسيا، خاصة في ظل زيارته الشهيرة
لموسكو في بداية الحرب الأوكرانية وما كان يروى عن عمليات مشتركة لقواته مع «فاغنر».
ربما يكون حميدتي قد سعى للتقرب من القيادة الروسية بهدف
استغلال حاجة موسكو للذهب، وربما يكون حاول الحصول على أسلحة نوعية تعوض النقص،
الذي يشعر به بالمقارنة مع عتاد الجيش السوداني، إلا أن المنطق يخبرنا أنه من
الصعب تصور تضحية روسيا بعلاقتها التاريخية مع الجيش السوداني لأجل مساندة مغامر
غير مأمون الجانب.
السبب الأهم الذي قد يجعل موسكو غير متحمسة لمناصرة
حميدتي والرهان عليه هو ثقتها في أن إحكام الرجل سيطرته على كل السودان أمر صعب،
خاصة مع ما ظهر من فشل في إحكام السيطرة على المناطق الرئيسة والحيوية كالمطارات،
على الرغم من التواجد المسبق وإمساك زمام المبادرة. آخر ما تحتاج إليه روسيا في
هذا التوقيت هو الدخول في رهانات فاشلة. أضف إلى ذلك كله أنه، إذا كان التحالف مع
حميدتي سيضمن لروسيا انسياب الذهب، وأي أنواع أخرى من الموارد، فضلا عن التفكير
الجاد في موضوع قاعدة البحر الأحمر التي تحتاجها، فإن علاقة جيدة مع السلطة
الرسمية الحالية ومع قيادة الجيش الرسمية، ربما كان سيحافظ على استدامة ذلك كله،
بالإضافة إلى ضمان بقاء السودان كجزء من المعسكر الصديق، خاصة في ظل انعدام الثقة
في الدول الغربية، التي لم تقدم ما يذكر لمساعدة السودان، على الرغم مما قدمه من
تنازلات.
هكذا يمكن للتفكير المنطقي أن يكون مريحا، لكن مشكلة هذا
المنطق هو أنه ينطلق من فرضية تماهي السلطة الروسية و»فاغنر»، معتبرا أن الأخيرة
هي مجرد ذراع عسكرية للجيش والقوات الأمنية الروسية، لكن السؤال الذي نطرحه هنا
هو: ماذا إذا كانت «فاغنر» بدأت التعامل بما ترى أنه يحقق مصلحتها الخاصة، وتحولت
لمجرد عصابة خارجة عن السيطرة لا تفكر سوى بما يحقق لها مزيدا من المال؟
الفارق هنا كبير جدا بين الحالين، ففي حال كانت هذه
المنظمة هي مجرد ذراع لتنفيذ المصالح الروسية، فإن ذلك يعني أنها محكومة بحسابات
هذه المصالح، بما يعني إدراك حساسية التقاطعات الدولية وأهمية التعامل برشد، أما
إذا تحولت لمجرد منظمة ربحية، فإن هذا سيعني بالمقابل أنها يمكن أن تقوم بالشيء
وعكسه وأن تساهم في دعم أطراف متناقضة ومتقاتلة فيما بينها، دون الاحتكام إلى أي
مرجعية سوى الربح المجرد. هذه كانت عبر التاريخ الطريقة الأسهل أمام أمراء المال
لمراكمة الثروات، ولعل بالإمكان التمثيل هنا بعائلة روتشيلد اليهودية الأوروبية،
التي بنت ثروتها الضخمة عبر توفير مرتزقة للمشاركة في الحروب، وعبر دعم الجيوش
المتصارعة وأخذ فوائد على ذلك من جميع الأطراف.
قصة ثروة روتشيلد موحية، فيما يخص تاريخ تمويل المرتزقة،
ولكن أيضا فيما يتعلق بجذور سيطرة أصحاب رؤوس الأموال، ليس فقط على الاقتصاد
العالمي ولكن على السياسة العالمية أيضا، التي يمكن توجيهها حسب مصلحة أمراء
الحرب، وهو الأمر الذي نرى استمراره حتى اليوم.
«فاغنر» عادت إلى الواجهة مؤخرا بعد أخبار تحدثت عن أن
من الممكن أن يكون مؤسسها إيفغيني بريغوجين، الذي ظهر في تصريحات علنية وهو ينتقد
الجيش الروسي، قدم معلومات للأوكرانيين وعبّر عن إمكانية التعاون معهم.
بريغوجين، الذي كان في الظل لوقت طويل لدرجة إنكار أي
علاقة بـ»فاغنر»، بدا بنظر البعض متطلعا أكثر لتجاوز دوره الأمني ولعب دور سياسي.
يستند أولئك على مساعي الرجل لتحسين صورته من خلال ظهور مكثف وعلى قيامه بأشياء
موحية كتغيير شعار منظمته مستبدلا صورة الجمجمة بصورة نجمة، إضافة إلى تجرؤه على
انتقاد بوتين عبر عبارات حادة، وإن كانت غير صريحة.
بعدما كان وصف بداية هذا الشهر بأنه هزيمة روسية في
باخموت نتج عنها مقتل أعداد كبيرة من مقاتلي «فاغنر»، بدا بريغوجين شديد الحزن على
هذه الخسارة ولم يتردد في تحميل مسؤولية الفشل للجيش الروسي النظامي وللقيادة
العسكرية، التي عجزت عن توفير الإمدادات المناسبة، وكأنه أراد القول إن المعركة لو
كانت تحت إدارته بشكل كامل لتغيرت تفاصيلها.
اختار بريغوجين لذلك الاتهام يوما مميزا هو التاسع من
مايو/أيار، ذكرى الانتصار الكبير على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية،
وبينما كانت الأنظار مصوبة نحو الرئيس بوتين، الذي يجلس على المنصة متابعا العرض
العسكري، كان بريغوجين يطل في تسجيله منتقدا عبث القادة فيما يتعلق بمسار الحرب.
وفق ما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست»، فإن أمر التواصل مع
الأوكرانيين بشأن انسحابهم من باخموت بمقابل، وهو ما أنكره بريغوجين وسخر منه، تم
بعلم الرئيس الروسي. هذا يجعل الأمر، إن حدث، أقرب لخلق قنوات تواصل جديدة ومتفق
عليها من كونه خيانة، خاصة وأن قدرا من التواصل، حتى مع العدو، لابد منه للتفاهم
حول تفاصيل ميدانية كتبادل الأسرى مثلا.
يجب ألا ننسى أيضا أن الأمر يتعلق بالحرب، التي تعتمد
بشكل أساسي على الخداع والمكيدة. بهذا قد يكون كل ما سبق من تسريبات مفتعلا، خاصة
ما تعلق بتكرار الحديث عن قلة العتاد ومشكلة الإمدادات، التي تواجه الجيش الروسي.
ربما أرادت السلطة الروسية بالفعل تشتيت الانتباه وحمل الطرف الأوكراني على
التراخي بانتظار التأهب لهجوم جديد. اليوم ومع الأنباء التي تؤكد السيطرة الكاملة
على مدينة باخموت بواسطة «فاغنر» وانسحاب الجيش الأوكراني من المدينة، تبدو وجهة
النظر، التي كانت تعتبر أن إحداث الزوبعة كان مقصودا، أكثر رجاحة.
الأكيد هو أن تعاظم دور بريغوجين وأذرعه العسكرية والإعلامية
وكذلك ظهوره المكثف وتوظيفه للمحكومين، كل ذلك كان يتم باتفاق وتنسيق مع القيادة
الروسية، وخاصة الرئيس بوتين، الذي يبدو واثقا من قدرته على التحكم والسيطرة. مع
ذلك فإن من الصعب أن نمنع أنفسنا من التفكير فيما يمكن أن يحدث إذا ما قرر رجل
الظل تحدي السلطة في موسكو وتأثير ذلك على الداخل الروسي وعلى عمليات المنظمة
المتمددة حول العالم وفي أكثر من مكان. نأخذ هنا في الاعتبار الطموح، الذي لا
يخفى، للرجل وما يملكه من إمبراطورية مالية تجعل التوظيف في منظمته أكثر مزايا
بكثير من العمل في مؤسسات حكومية أو حتى ضمن الجيش النظامي، ما يشكل عاملا حاسما
لكسب الولاءات.
(نقلا عن جريدة القدس العربي)