شهد أغلب دول العالم ظروفاً اقتصادية صعبة خلال العام المنصرم، فما بين التداعيات الممتدة للإغلاقات، والتقييد بسبب جائحة كورونا، التي كانت قد شغلت العالم لما يزيد عن عامين، والحرب الأوكرانية التي تعدى أثرها الدول المشاركة فيها، حدث ارتباك فريد من نوعه في سلاسل الإمداد، ما انعكس على الأسعار وعلى وضع الأسواق العالمية العام.
استقبال هذه الأزمة العالمية لم يكن متشابهاً، فمن ناحية كانت بعض الدول تحاول أن تخفف من آثار
التضخم على شعوبها باتخاذ تدابير اجتماعية داعمة، في حين كانت دول أخرى لا تفعل شيئًا سوى التعذر بالأزمة العامة، ما ترك المواطنين يواجهون مصيرهم وحدهم. من جهة أخرى مضت دول لاتباع سياسة أقسى وهي تتخذ من هذا الوضع مبررا لمضاعفة الضرائب وتبرير انهيار العملة.
في
أوروبا كانت الصدمة كبيرة، فالقارة كانت متأثرة بأزمة الطاقة وازدياد أسعار غاز التدفئة، كما أنها كانت متأثرة بالتضخم (الأموال نفسها مقابل عدد أقل من السلع). وفقا لهذا، تابعنا اضمحلالا في القدرة الشرائية للأوروبيين، ورأينا كيف شهد اليورو، ربما لأول مرة، انخفاضا حقيقيا في مواجهة الدولار، وذلك بموازاة الارتفاع العام والمفاجئ في الأسعار. الصدمة الأوروبية كانت أكثر إيلاماً من غيرها، فبخلاف دول الجنوب، لم يتعود الأوروبيون على مثل هذه الزيادات الكبيرة والمفاجئة في الأسعار، وربما يحدثك شخص عن بقائه في مدينة أوروبية لعشر سنوات مثلاً بالميزانية نفسها دون أن يلاحظ فروقًا كبيرة تذكر على صعيد ميزانية مشترياته. يمكن مقارنة ذلك بما حدث في العام الأخير، الذي زادت فيه تكاليف إنتاج الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي بما يعادل تريليون ونصف التريليون دولار. شكل هذا التغير في أسعار الطاقة، الذي جعل كثيراً من الأوروبيين يفكرون في العودة للفحم، حالة من الذهول اهتزت معها تدابير المواطنين، بل خطط الدول المالية. كان ذلك أهم سبب لخروج الآلاف من المواطنين إلى الشارع في أكثر من مكان احتجاجاً وسخطاً وهم يشعرون بأن رواتبهم فقدت قيمتها. في مقابل حالة السخط العامة هذه، لم تكن الحلول التقليدية القائمة على مزيد من الدعم لتخفيف الآثار الاجتماعية للتضخم مطروحة، فبالنسبة لصناع القرار الأوروبي، كانت السياسات الخاصة بخفض أسعار الفائدة وتقديم دعم مالي مباشر للمتضررين، والمساهمة في دعم السلع والخدمات، وهي السياسات التي طبقت للحد من آثار جائحة كورونا، من أهم أسباب الأزمة. عمت التظاهرات أغلب المدن والعواصم الأوروبية، وزادت لتنحو منحى لا يخلو من العنف، حينما وصلت رسالة للغاضبين مفادها أنه لا توجد لدى الحكومات أي آفاق أو خطط واقعية للحل. الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل سلسلة من الإضرابات، التي شملت قطاعات حيوية كالنقل والكوادر الطبية، ما ولّد ارتباكاً في حركة المواصلات العامة، وفي أكثر من قطاع خدمي، لدرجة استعانة بعض الدول بالعسكريين من أجل المساعدة في انسياب حركة المرافق المدنية ريثما يتم التفاوض مع النقابات العمالية الحانقة. كان هناك ضغط اقتصادي متزايد ناتج عن دعم الأوروبيين لأوكرانيا، وعن مجمل تداعيات الحرب التي كلفت أوروبا خسائر هائلة. في خضم ذلك، وفي الوقت الذي كانت الدول الأوروبية تعتذر فيه عن تقديم مزيد من الدعم الاجتماعي، كان الاتحاد الأوروبي يعلن عن تخصيص مبلغ ملياري دولار لدعم الأوكرانيين، وهو ما بدا للبعض بمثابة الاستفزاز. بالنسبة للحانقين، فإنه كان يجب التوقف فعلاً عن التورط في هذه المعركة التي تؤثر في معيشهم واقتصاداتهم. السياسيون بدورهم كانوا يدافعون بقوة عن ضرورة عدم التخلي عن أوكرانيا، التي سوف يساهم سقوطها في اقتراب الروس أكثر من ديارهم، ما يشكل، وفق وجهة نظرهم، تهديداً أكبر من التهديد الاقتصادي الحالي. من بين الدول الأوروبية تبدو بريطانيا، التي ارتفعت فيها تكلفة الكهرباء لحوالي 66% في حين ارتفعت فاتورة الغاز لحوالي 129% للمستهلك ووصل فيها التضخم إلى 11%، الأسوأ حظاً، فبخلاف أزمة كورونا وتداعيات الحرب الأوكرانية، ما يزال البلد يعيش تداعيات أخرى مختلفة ناتجة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي. قرار الخروج، الذي قام بتعقيد التواصل التجاري مع الجيران الأوروبيين، يؤمن كثيرون اليوم بأنه مثّل خطأ كبيراً بتأثيره السيئ على حركة التصدير والاستيراد، وتعقيده لانسياب مرور البشر والبضائع، ما أضعف مكانة لندن، التي كانت من أهم عواصم المال والأعمال في القارة الأوروبية. اليوم تبدو نتائج سياسة الخروج السلبية واضحة، حيث ساهمت التضييقات الذي ولّدتها في انخفاض الناتج القومي وتراجع الأداء الاقتصادي، الذي يعد حاليا من بين الأسوأ أوروبياً، والذي يجعل بريطانيا في مرتبة متراجعة، إذا ما تمت مقارنتها بدول صاعدة كالهند. الوضع الاقتصادي في فرنسا المجاورة لا يبدو أفضل بكثير، وخير تعبير عن هذا كان كلمة الرئيس فرانسوا ماكرون، التي وجهها للشعب في بداية العام، حيث خلت من التفاؤل أو الوعود واكتفت بدعوة الفرنسيين للتوحد في مواجهة التحديات. تحدث ماكرون في كلمته تلك عن إصراره على التعديلات الجديدة في نظام المعاشات، الذي يجعل سن المعاش يرتفع لأعوام إضافية من أجل تضييق الفجوة بين الأقلية المنتجة والأعداد الكبيرة من كبار السن والعاطلين والمستفيدين الآخرين من المنح الاجتماعية وبرامج الإعانات. قدمت مسألة التعديلات، أو «الإصلاحات المعاشية»، التي تطرح كأمر واقع في طريقه للتنفيذ، سببا إضافيا لخروج المتظاهرين الذين رأوا فيها ظلما عليهم. على سبيل المثال تسببت هذه المسألة في توقف قطار من بين كل ثلاثة قطارات سريعة عن العمل في فرنسا إبان عطلة نهاية العام، ما أدى لارتباك ولإلغاء أعداد كبيرة من الرحلات. شملت الإضرابات، التي يتوقع أن تتوسع ما لم تقدم الحكومة الفرنسية عروضا عملية ومقنعة، أكثر من قطاع.
في محاولة لتطويق الأزمة، حاول الأوروبيون اتباع عدة سياسات، كالتقشف الشديد، وكمساعي تحديد أسعار
الغاز الروسي، أو كالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة. للأسف لا يحمل كل ذلك حلولاً سريعة وناجعة، فالاستمرار في السياسة التقشفية قد تكون له تداعيات اجتماعية يصعب التحكم فيها، أما تسعير الطاقة الروسية فهو أمر تكتنفه عراقيل ولا يمكن الحكم بتحقيقه اختراقاً اقتصادياً فعلياً، حتى إن تم تنفيذه، أما الاعتماد على الطاقات البديلة المتجددة فيحتاج الكثير من الوقت والمال، حتى يكون مجديا اقتصادياً، ولا يمكن التفكير فيه كحل آني وسريع. مساحات التفاؤل تظل ضئيلة، ليس فقط بسبب أنه لا توجد أية بوادر لحل الأزمة الأوكرانية، في وقت يتمسك فيه كل طرف بمواقفه ومطالبه، ولكن لما يتردد من احتمال لعودة التضييقات الصحية، بسبب متحور جديد لفيروس كورونا، وهو ما بدأ فعلا حين بدأت بعض الدول باتباع حزمة من الإجراءات المتعلقة بالمسافرين من وإلى الصين. ربما يجب أن يضع السياسيون في دول الجنوب المتعثرة، من الذين ينتظرون من الدول الأوروبية أن تقضي عنهم ديونهم وتقود اقتصاداتهم إلى النور، هذه الحقائق نصب أعينهم، فإذا كان الأوروبيون في أوقات رفاههم لا يقدمون سنتاً، إلا حينما يتأكدون أنه سيعود عليهم بعشرة أضعافه، فكيف سيكون الحال اليوم، وماذا سيأخذون مقابل ما سيقدمونه، هذا إن قدموا شيئا أصلا؟
(عن صحيفة القدس العربي)