الدواء ليس سلعة ولكنه حق لكل مواطن حسب المواثيق الدولية؛ ويجب أن
يكون متوفرا للمواطنين بسهولة، وبسعر مناسب، في الوقت المناسب، بالجرعة المناسبة،
ولمدة كافية.
ولكن في
مصر توجد حالة من عدم اليقين في
أسعار الدواء بداية من
القانون 499 لسنة 2012، خلال فترة حكم المجلس العسكري، والذي يتم من خلاله وضع
أسعار للأدوية حسب أسعارها في عدة دول عالمية باعتبارها دولا ذات مرجعية، حيث يتم
وضع سعر للدواء المثيل في مصر بعد خصم نسبة مئوية من متوسط السعر في تلك الدول حسب
معادلات رياضية ورقية، ودون مراعاة الأسلوب المتعارف عليه في حساب سعر أي منتج
بمراعاة مدخلات الإنتاج وتكاليف التشغيل والنقل والتوزيع ونسب الربحية.
وقد أدى هذا القانون إلى وجود عشوائية واضحة في تسعير الدواء داخل
مصر، بصورة بدت واضحة منذ بداية إصدار قرارات تحرير سعر العملة في نهاية عام 2016،
حيث قامت الحكومة في يناير (كانون الثاني) عام 2017، بإصدار قائمة ضخمة من زيادة
الأسعار شملت أكثر من ثلاثة آلاف منتج دوائي كانت تمثل وقتها أكثر من 75 بالمئة من
الأدوية الأكثر تداولا في السوق المصري، ومن بعدها ومنعا لتكرار نوبات الغضب
الشعبي، فقد لجأت الحكومة إلى وسيلة تحريك الأسعار وهي آلية تسمح برفع أسعار أصناف
قليلة وبصورة تدريجية لا تحدث زخما جماهيريا شديدا.
وكان الخطاب الإعلامي يبشر المواطنين بقرب إنشاء هيئة مستقلة تتبع
مجلس الوزراء وتكون مسؤولة عن ترتيبات الإنتاج والتسعير للدواء المحلي ومعها هيئة
أخرى تكون مسؤولة عن إجراءات الاستيراد من الخارج، وقد تم بالفعل إصدار القانون
رقم 151 لسنة 2019، بإنشاء هيئة الدواء المصرية لتولي مهام الجانب الأول، والهيئة
المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية لتولي
مهام الجانب الثاني.
هيئة الدواء المصرية تعتمد زيادة في أسعار أدوية هامة وبنسبة تصل إلى
120 بالمئة لبعض الأصناف:
اعتمدت هيئة الدواء المصرية زيادات جديدة في أسعار العديد من أصناف
الأدوية الهامة إثر موافقتها على طلبات شركات الدواء بشأن مراجعة الأسعار ضماناً
لتوافرها في السوق المحلية، على خلفية تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار، وارتفاع
تكلفة الشحن، واستيراد خامات الإنتاج من الخارج بالعملة الصعبة.
وتتبع هيئة الدواء لجنة مختصة بإعادة تسعير الأدوية، يتمثل دورها في
دراسة طلبات الشركات بتحريك أسعار الدواء كل أسبوع، وإصدار موافقات زيادة سعر كل
دواء على حدة، تحت ذريعة مواجهة ظاهرة نقص واختفاء الكثير من الأدوية الضرورية
والأساسية من السوق المصرية، حيث يشهد سوق الدواء في مصر تراجعاً حاداً في أنواع
الأدوية والمستلزمات الطبية، في المستشفيات العامة والخاصة على حد سواء. ويتركز
النقص في أدوية السرطان والأمراض المزمنة والكيميائية والبيولوجية، لا سيما
المنتجة في الولايات المتحدة وأوروبا.
الدواء ليس سلعة ولكنه حق لكل مواطن حسب المواثيق الدولية؛ ويجب أن يكون متوفرا للمواطنين بسهولة، وبسعر مناسب، في الوقت المناسب، بالجرعة المناسبة، ولمدة كافية.
وكما هي العادة في مصر فإن زيادة الأسعار تبدأ بعدد من التصريحات
الرسمية التمهيدية، بدأت قبلها بأسبوع؛ حيث أوضح رئيس هيئة الدواء المصرية يوم 21
مايو الماضي أن حجم صناعة الدواء يقدر بنحو ١٧٠ مليار جنيه، مشيرا إلى أن عدد
المصانع التي تعمل في مجال الدواء تقدر بنحو 174 مصنعا قائما وعدد خطوط الإنتاج وصلت
لنحو 720 خطا وهي خطوط متميزة، وفي اليوم التالي أعلن المستشار الطبي برئاسة
الجمهورية أن أسعار الدوار في مصر هي الأرخص عالميا، وأن 88 بالمئة من احتياج
الدواء هي من الإنتاج المحلي، وبعدها بيوم نفى رئيس شعبة الأدوية بالغرفة
التجارية، أن يكون هناك تحريك في الأسعار بالفترة المقبلة، ولكن وبعدها بأيام
قليلة أعلنت هيئة الدواء المصرية عن قرار زيادة أسعار عدد من الأدوية وبنسبة كبيرة
في زيادة تبدأ من 23 بالمئة، لتبلغ 120 بالمئة لبعض الأصناف.
تقلص الاعتمادات الحكومية لدعم للدواء وتحويله إلى صندوق مواجهة
الطوارئ الطبية من أهم أسباب المشكلة:
بدأت بوادر مشكلة زيادة أسعار الدواء في الظهور بصورة مقلقة عام 2014
بسبب تقلص اعتمادات دعم الدواء بالموازنة العامة بمبلغ 0.4 مليار جنيه، وزادت
حدتها بعد تحرير صرف العملة في نوفمبر 2016، وفي عام 2019 تم تقليص موازنة دعم
الدواء مرة أخرى بمبلغ نصف مليار جنيه، وأصبح صندوق دعم الدواء المصري؛ الذي تم
إنشاؤه بقرار جمهوري عام 2017، يمثل النواة التي قيل بأنها سوف توفر احتياجات المريض
المصري من الدواء.
وهذا الصندوق يتبع وزير الصحة والسكان ويأخذ مساهمته من منظمات دولية
وحكومية وغير حكومية، ودعا وزير الصحة والسكان الشركات ومنظمات المجتمع المدني
للتبرع لهذا الصندوق، ولكن هذا الصندوق لم يستمر طويلا؛ حيث تم ضمه إلى صندوق
مواجهة الطوارئ الطبية عام 2021، والقائم أيضا على المساهمات والتبرعات وفرض رسوم
متنوعة على المواطنين، وللمرة الثالثة فقد تم تخفيض الدعم الحكومي للدواء بمبلغ
نصف مليار جنيه في موازنة 21/2022.
زيادة أسعار الدواء ظاهرة شبة يومية تزيد من معاناة المرضى:
تداخلت عوامل كثيرة زادت من حدة المشكلة بداية من تحرير سعر العملة؛
وما تبعه بعدها من موجات عاتية ومتتالية من زيادات أسعار الأدوية، بسبب تراجع سعر
صرف الجنيه أمام الدولار في حين تعتمد الصناعة الدوائية المحلية على استيراد 95
بالمئة من الخامات الدوائية من الخارج، مما جعل مسؤول الغرفة التجارية يعلن عن
أهمية تحرير سعر الدواء على أن تتولى منظومة التأمين الصحي الشامل تغطية احتياجات
المرضى، ولكن تلك التوقعات قد خابت نظرا لتعثر تطبيق التأمين الصحي الشامل وما زال
في حدود محافظات المرحلة الأولى وبنسبة تغطية حوالي 3 بالمئة فقط من المصريين، رغم مرور خمس سنوات على إصدار
القانون المنظم للمنظومة في بداية عام 2018.
ومن ناحية أخرى فإن ضعف الإنفاق الحكومي على الصحة وبنسبة لا تتجاوز
1.4 بالمئة فقط من إجمالي الناتج المحلي، ووجود فجوة تمويلية في احتياجات خدمات
الرعاية الصحية، قد أدى إلى تحويل مصدر التمويل الرئيسي لدعم الدواء ليكون من خلال صندوق مواجهة الطوارئ الطبية بدلا من الموازنة
العامة للدولة، وبالتالي فقد أصبح دعم الدواء يعتمد على مسار غير منتظم ولا يضمن
الديمومة ولا الاستمرارية، وأصبحت زيادة أسعار الدواء تمثل ظاهرة شبه يومية يعاني منها المواطنون، ولا تبدو لها حلول في الأفق القريب.