نشرت صحيفة "
لوموند" الفرنسية تقريرا تحدثت فيه عن
أفريقيا التي عادت إلى سقف
الديون المرتفعة بعد فترة من الاستقرار النسبي.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "
عربي21"، إن ارتفاع أسعار الفائدة أدى إلى إضعاف القارة؛ حيث تواجه حوالي عشرون دولة مديونية مفرطة أو في طريقها إلى ذلك. وهو وضع يختلف عن أزمة الثمانينيات والتسعينيات، ولكنه يهدد مرة أخرى بتقويض آفاق التنمية في منطقة تعيش في خضم طفرة ديمغرافية.
ونقلت الصحيفة عن وزير المالية الغاني كين أوفوري-أتا أكر تأكيده أن بلاده لن تعود أبدًا لصندوق
النقد الدولي قائلًا: "مهما حدث، لن نفعل ذلك. ستكون العواقب وخيمة، فنحن أمة فخورة، ولدينا الموارد، ولدينا القدرات". وكان ذلك في شباط/فبراير 2022، عندما شهد الاقتصاد الغاني تدهورا واضحًا متأثرًا بسقوط السيدي، العملة المحلية للبلاد، وارتفاع أسعار الفائدة.
للأسف، بعد عشرة أشهر، على الرغم من توعد وزير المالية السابق، طلبت الدولة الواقعة في غرب أفريقيا، للمرة السابعة عشرة منذ استقلالها في سنة 1957، مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي. وتمت الموافقة على قرض بقيمة ثلاثة مليارات دولار (2.8 مليار يورو) في نهاية أيار/مايو الماضي، بينما تعهد الدائنون للبلاد بالعمل على إعادة هيكلة ديونها. وهي خاتمة مريرة للبلد الذي كان مثالا للنمو الأفريقي، المستقر والديمقراطي والذي حاز على استحسان الأسواق المالية منذ فترة طويلة.
تجدر الإشارة إلى أن غانا هي ثاني دولة أفريقية تفلس منذ الأزمة التي نتجت عن جائحة كورونا، وسبقتها زامبيا، التي تبدو غير قادرة على الوفاء بديونها الخارجية اعتبارًا من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. وبعد مفاوضات لا نهاية لها مع دائنيها، وخاصة
الصين، لمحاولة تخفيف العبء، يبدو أن هناك اتفاقا ما بدأ أخيرا في رؤية النور.
وأبرزت الصحيفة أن الوضع المزري لاقتصاد كلا البلدين يغذي مخاوف كل أولئك الذين يلوحون بخطر أزمة ديون جديدة في أفريقيا، بعد عشرين سنة من عمليات الإلغاء الواسعة التي يقودها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وقد أعاد هؤلاء تعيين العدادات إلى الصفر تقريبًا في حوالي ثلاثين دولة في المنطقة، لكن الديون بلغت من جديد الخطوط الحمراء.
وأفادت الصحيفة بأنه في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وصل الدين العام إلى 57 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية سنة 2022، وهو مستوى لم نشهده منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، فإن حوالي عشرين دولة في القارة تعاني حاليًا من ديون مفرطة أو في طريقها إلى ذلك.
معادلة غير مقبولة
ونقلت الصحيفة عن الأستاذ بجامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا، كارلوس لوبيز، قوله: "تعتبر أزمة الديون هذه دولية؛ فجميع مناطق العالم معنية، وفي أفريقيا تعد المبالغ صغيرة للغاية. تخيل أن جميع مدفوعات خدمة الديون في أفريقيا جنوب الصحراء [البالغة 21.4 مليار دولار في سنة 2022 وفقا لوكالة فيتش] تعادل تقريبًا ما تم طرحه على الطاولة في الولايات المتحدة لإنقاذ بنك وادي السيليكون!".
ولكن، وفقا لهذا الخبير الاقتصادي، فإن الوضع لا يقل صعوبة: "لقد أصبح من الصعب أكثر فأكثر على عدد معين من البلدان الوفاء بقروضها بسبب نقص السيولة المتاحة لأفريقيا. باختصار، لا تكمن المشكلة في حجم الدين بقدر ما تكمن في القدرة المالية على سداده، وهو السؤال الذي سيشغل مناقشات "قمة الاتفاقية المالية العالمية الجديدة" التي سيعقدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس يومي 22 و23 حزيران/ يونيو، وهو اجتماع سيشارك فيه العديد من الرؤساء الأفارقة والذين يتمثل طموحهم المعلن في زيادة التمويل للدول النامية.
وترى الصحيفة أنه يمكن أن تصبح المعادلة غير مقبولة لحوالي عشرين دولة تحشد القليل من الإيرادات الضريبية والتي تجد نفسها، بالفعل، مجبرة على كبح ديونها. على ضوء ذلك؛ حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في 28 نيسان/أبريل الماضي في عمود في صحيفة لوموند قائلا: "منذ سنة 2020، تنفق أفريقيا على تسديد الديون أكثر مما تنفق على الرعاية الصحية".
في نيجيريا؛ الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في القارة، يمتص سداد الديون ما يعادل أكثر من 90 بالمئة من عائدات الدولة، مما يؤدي تقريبًا إلى تدمير الموارد المتاحة للخدمات الاجتماعية.
لكن، هل سيُحكم على القارة الأفريقية بالعودة إلى الأبد للمديونية المفرطة؟
ركزت شركات الأبحاث والمؤسسات الدولية على أوجه التشابه بين الفترة الحالية وفترة الثمانينيات والتسعينيات، عندما شهدت الدول، التي تأثرت بانخفاض أسعار السلع الأساسية، ازدياد حجم ديونها. وفقا لمذكرة نشرها صندوق النقد الدولي في أبريل/نيسان الماضي، لا تزال مؤشرات الاقتصاد الكلي في المتوسط "أفضل بكثير" اليوم مما كانت عليه عندما تم إطلاق مبادرة "البلدان الفقيرة المثقلة بالديون".
جزء من القروض ضلّ طريقه
وأوضحت الصحيفة أنه منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، على حد تعبير الخبير الاقتصادي البريطاني المتخصص في الأسواق الناشئة، تشارلي روبرتسون "اجتمعت ثلاث ظواهر"؛ حيث تم شطب الديون الأفريقية وارتفاع معدلات النمو، مما جعل البلدان الأفريقية أكثر جذبا؛ وكان لدى الصين طاقة هائلة في الإنتاج والادخار، فبدأت في البناء والإقراض على نطاق واسع في القارة. وأخيرا، فتحت أسعار الفائدة الأمريكية المنخفضة الباب للوصول إلى سوق الديون الدولية لمصدرين جدد".
وبينت الصحيفة أنه بين سنتي 2007 و2020، جمعت 21 دولة أفريقية الأموال في الأسواق، معظمها لأول مرة. في حين أن المساعدة التي يدفعها المانحون الرئيسيون أصبحت أقل سخاء بمرور الوقت، فإن سندات اليوروبوند، هذه السندات المقومة بعملة مختلفة عن عملة البلد المُصدِر، قد زودت الدول بالمال بسرعة ودون شروط.
في الوقت نفسه؛ منحت الصين ما لا يقل عن 127 مليار دولار بين سنة 2010 و2019 لدول أو شركات في القارة، وفقًا لمبادرة الأبحاث الصينية الأفريقية، وهي مركز أبحاث في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية. ونُفذت هذه العملية تحت قيادة العملاق الآسيوي، وتضاعفت مواقع إنشاء الطرق والموانئ والسكك الحديدية وأصبحت بكين الدائن الثنائي الرئيسي لعدد قليل من البلدان مثل جيبوتي وإثيوبيا وزامبيا.
من جهته، يؤكد مارتن كيسلر، مدير مختبر التمويل من أجل التنمية أن "النقطة الإيجابية هي أن هناك أصولا أمام كل هذه الديون الجديدة: لقد أتاحت ازدهارًا حقيقيًّا في البنية التحتية، لكن الأمر المؤسف يتمثل في أن هناك عددا من المشاريع التي لم تحقق العائد المتوقع. على سبيل المثال، في زامبيا، انتهى الأمر بالأموال التي تم جمعها من الأسواق، والتي كانت مخصصة في البداية لمشاريع النقل الكبرى، إلى استخدامها بشكل أساسي لخفض العجز. بينما ضلت بعض القروض التي أصدرتها الصين طريقها، إذ انتهى بها الأمر أحيانًا في جيوب السياسيين الزامبيين السابقين.
وحسب برايت سيمونز، نائب رئيس مركز التفكير الغاني "إيماني"، "هناك مشكلة في كفاءة الإنفاق؛ حيث تم إهدار الكثير من الأموال في مشاريع ذات عائد ضئيل أو معدوم على الاستثمار". بالإضافة إلى ذلك؛ لم يحدث التحول الصناعي الذي وعدت به الحكومة وبدأت الدولة في الاقتراض بشكل متزايد، من الأسواق وبنوكها المحلية، في محاولة لضمان بقائها.
"احتمال وقوع حادث"
ولفتت الكاتبة إلى أن المخاطر لا تهدد بنفس الطريقة قارة بأكملها تتكون من أكثر من خمسين دولة. ويشير مارتن كيسلر إلى أن "الأكثر عرضة للمخاطر هم أولئك الذين يسميهم المستثمرون "الحدود"، وهو مصطلح يشير إلى هذه الأسواق الجديدة بنمو واعد ولكنها أصغر حجمًا وأكثر تقلبًا وأقل سيولة من الأسواق الناشئة؛ حيث يضيف كيسلر: "لقد كانت لسنوات طويلة الأكثر ديناميكية وأعتبرها استثمارات شائعة".
وأشارت الصحيفة إلى أنه مثل زامبيا وتشاد وغانا الآن؛ طلبت إثيوبيا في أوائل سنة 2021 الاستفادة من إطار إعادة هيكلة الديون المشترك الذي وضعته مجموعة العشرين، لكن بالنسبة لها أيضًا؛ فإن العملية شاقة. فخلال هذا الوقت، تشهد البلاد نفاد احتياطياتها من العملات الأجنبية وليس لديها سوى ما يكفي لتمويل أقل من شهرين من الواردات.
تكلفة باهظة
وأضافت الصحيفة أنه على خلفية الخصومات الجيوسياسية؛ عقد تنوع ملفات تعريف الدائنين عمليات إعادة التفاوض، بحيث تتهم الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة بكين بإطالة أمد المفاوضات.
وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي فإن 8 بالمئة فقط من ديون بلدان أفريقيا جنوب الصحراء تعود للصين، بينما تعتبر ثلاثة أرباع هذه الديون بمثابة قروض تجارية محلية أو في شكل سندات أوروبية. ومع ذلك؛ نادرًا ما يبادر الدائنون من القطاع الخاص بالتدخل عند خروج الديون عن نطاق السيطرة. وخلافًا للصين؛ لم يشارك أي منهم في مبادرة تعليق خدمة الديون التي اقترحتها مجموعة العشرين لصالح الاقتصادات النامية في بداية الوباء.
وفي حين يهدد شبح الإفلاس عددا قليلا من البلدان، غير أن القارة بأكملها موضع اختبار بسبب عجز التمويل، لا سيما بعد تسجيل انخفاض في معدل الإقراض الصيني غذتها مخاوف بكين من عواقب إسرافها المالي. منذ عدة أشهر، لم يغامر أي مُصدر أفريقي بدخول الأسواق الدولية بعد أن أصبحت الأسعار باهظة.
وبينت الصحيفة أن القارة تواجه عواقب الصراع الروسي الأوكراني الذي يجذب اهتمام وأموال المانحين الرئيسيين. فبحسب الأرقام المؤقتة الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تراجعت المساعدات الإنمائية المخصصة لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بنسبة ما يقارب ثمانية بالمائة سنة 2022.
وفي حين تنطفئ الآمال التي علقت على التضامن الذي وعدت بتقديمه الدول الغنية في الأيام الأولى لانتشار جائحة فيروس كورونا؛ ارتفعت معدلات التضخم تحت تأثير الحرب وعدم تنظيم التجارة الدولية.
في هذا الصدد؛ يقول مدير الإدارة الأفريقية في صندوق النقد الدولي، أبيبي إيمرو سيلاسي: "الوضع لا يطاق بالنسبة لعدد من البلدان. في حال بقي على حاله ولم نجد طريقة لزيادة الموارد، فإن مشاكل السيولة ستتحول إلى مشاكل في القدرة على سداد الديون".
وبالنسبة للاقتصاد الإثيوبي، ورغم أن الضغوطات المالية لن تخلق أزمة ديون عامة غير أنها قد تؤجل مسار التنمية. مع العلم أن الاستثمارات في رأس المال البشري والبنية التحتية لا تلبي احتياجات القارة التي تشهد نموًا ديموغرافيًا ويعيش أكثر من ثلث سكانها في فقر مدقع.
وفي ختام التقرير تنقل الصحيفة عن سيلاسي قوله إنه "في السنوات العشر والـ15 القادمة ستؤمن أفريقيا نصف ما يحتاجه سوق العمل الدولي من يد عاملة. وعليه؛ يستدعي تحولهم إلى محركات للاقتصاد العالمي الإلتحاق بالمؤسسات التعليمية والتمتع بصحة جيدة. وبخلاف ذلك، فإن تجاهل دعم هذه المنطقة اليوم يهدد مستقبل العالم بأسره".