بدلا من التوجه إلى باريس في
زيارة طال انتظارها وكثر الحديث فيها، اختار عبد المجيد
تبون موسكو في خطوة مفاجئة.
كانت زيارة موسكو مبرمجة منذ شهور، لكن بعد باريس. وكانت (موسكو) ثانوية في الأجندة
الجزائرية مقارنة بباريس من حيث الأهمية والأولوية.
لكن الذي حدث أن زيارة موسكو تقررت في آخر لحظة، ومن دون باريس. هل كان من أهدافها إغاظة السلطات الفرنسية؟ غير مستبعد. وغير مستبعد أيضا أنها كانت رسالة جزائرية مضمونها أن التطبيع مع فرنسا لم يحن أوانه بعد.
زيارة موسكو تنسف كل ما قيل عن أن العلاقات الجزائرية الفرنسية في أفضل أحوالها.
رغم كل ما كُتب وقيل في وسائل إعلام البلدين عن زيارة باريس، لم يرد شيء رسمي بخصوصها. لا من الرئاسة الجزائرية ولا من الفرنسية.
واضح أن الشكوك في الزيارة والظلال السلبية المحيطة بها منعت المسؤولين في العاصمتين من الخوض في أيّ تفاصيل أو كلام رسمي. بما أن لا شيء تأكد بخصوصها ولا شيء مضمون، فالصمت أفضل للجميع.
لهذا لا أحد من خارج الدوائر الضيقة المقربة من مصادر القرار في العاصمتين يستطيع القول بثقة هل الزيارة أُلغيت أم تأجلت فقط، بل هل كانت مبرمجة أصلا ومتى. ولا أحد خارج هذه الدوائر الضيقة يعرف هل قرار إرجاء الزيارة (أو إلغائها) جزائري أو فرنسي أو مشترك.
هذه الزيارة، أُلغيت أو تمت كما أريد لها، لن تنقذ العلاقات الثنائية المشبعة بأوزار الماضي والشكوك في المستقبل. أيًّا كان الذي قرر إرجاءها أو إلغاءها، تبون أو
ماكرون، فهو محق لأنها كانت ستجري في ظروف غير مناسبة ووسط علاقات ثنائية أقل ما توصف به أنها مضطربة.
الزيارة لا تتماشى مع الجو العام في الجزائر والمشاعر القومية التي يُنفخ فيها منذ وصول تبون إلى الحكم.
هناك الآن في الجزائر ثلاثة أعداء، المغرب وفرنسا وبدرجة أقل إسبانيا. إلا أن العداء لفرنسا له نكهة مختلفة تغرف من وجدان المجتمع كله عكس ما هو الحال تجاه المغرب أو إسبانيا.
ولا تتناسب الزيارة أيضا مع الجدل السلبي (حد الاستفزاز أحيانا) المستمر حول الجزائر والجزائريين في فرنسا.
الغرابة كانت أن تتم الزيارة وسط هذه الأجواء الموبوءة في كلا العاصمتين تجاه الأخرى.
في باريس، الجزائر مشكلة. وفي الجزائر، فرنسا عدو. لدى كثير من الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية، الجزائر عبء يجب التخلص منه ولا فائدة من الاستمرار في تحملها.
هذه الزيارة لن تنقذ العلاقات الثنائية المشبعة بأوزار الماضي والشكوك في المستقبل. أيًّا كان الذي قرر إرجاءها أو إلغاءها، تبون أو ماكرون، فهو محق لأنها كانت ستجري في ظروف غير مناسبة ووسط علاقات ثنائية أقل ما توصف به أنها مضطربة
ولدى أوساط جزائرية كثيرة، بعضها تعمل بتنسيق مع جهات رسمية، فرنسا عدو لا يمكن الوثوق فيه ولا يجب الاستمرار في التعامل معه.
واحدة بواحدة: بينما تثير أطراف يمينية في فرنسا ضرورة مراجعة اتفاقية 1968 التي تنظم هجرة الجزائريين إلى فرنسا، تتحدث وسائل إعلام جزائرية عن اجتماع سري عقده قادة استخبارات مغاربة وفرنسيون في إسرائيل لبحث إثارة الاضطرابات في جهات معينة من الجزائر، منها منطقة القبائل.
وبينما تأوي جهات حكومية وإدارية في فرنسا أطرافا جزائرية مناهضة لنظام الحكم في الجزائر وتسمح لها بالتظاهر في باريس وشتم هذا النظام، تصدر الجزائر مرسوما رئاسيا يعيد مقطعا من النشيد الوطني الجزائري يذكر فرنسا بالاسم وبحدّة، بعد عقود من تعطيل أدائه في المحافل الرسمية. تفاعلت فرنسا رسميا وإعلاميا مع إعادة المقطع في اتجاه يدل على الانزعاج.
في مقابل استياء جهات داخل نظام الحكم الجزائري من زيارة تبون لباريس وسعيها لعرقلتها، توجد أطراف داخل المنظومة السياسية والإعلامية المؤثرة في باريس تكره التقارب مع الجزائر وتبذل ما استطاعت لعرقلته.
وفي الحالتين لا يستطيع تبون هنا وماكرون هناك ضمان غلبة نهائية على هذه الأطراف، أو ادعاء أنها عديمة التأثير.
في فرنسا، الجزائر قضية سياسية/انتخابية، وفي الجزائر فرنسا قضية على تماس مع ريع مادي وسياسي.
لا يمر أسبوع من دون أن تنشر وسائل إعلام فرنسية ما تعتبره الجزائر مسيئا لها. ولا يمر يوم في الجزائر من دون أن تنشر وسائل إعلامها ما يغذي مشاعر العداء لفرنسا.
في الحالة الفرنسية الإعلام محكوم بنمط تفكير جاهز ومتغلغل في الذهنية الثقافية الجمعية حيال الجزائر. وفي الحالة الجزائرية ما يصدر في الإعلام يعكس تفكيرا مطروحا في دوائر الحكم النافذة.
أيُّ جدوى بعد كل هذا من الحديث عن زيارة تاريخية ناجحة يؤديها تبون لباريس؟
العلاقات السويّة بين الدول لا تكفيها مشاعر شخصية طيبة بين القادة لتصبح قوية وتصمد أمام الأزمات. مثلما لا تكفيها علاقات شخصية سيئة بين القادة لكي تتدهور أو تنهار.
لكن العلاقات الجزائرية خارج هذا القياس الطبيعي. فأحد أوجه مشكلة هذه العلاقات أنها يروَّج لها أنها قائمة على شخصين هما تبون وإيمانويل ماكرون.
ساد الاعتقاد في البلدين أن «الصداقة» المفترضة بين الرجلين والاتصالات الهاتفية الدافئة بينهما كافية لإصلاح هذه العلاقات المثقلة بالشكوك والتناقضات والتابوهات.
في عهد بوتفليقة اختُزلت علاقات الجزائر مع الدول في علاقاته الشخصية بقادتها، حتى كاد يتكرس الاعتقاد بأن هذه العلاقات ستنهار بعده. اليوم يعمل الإعلام الجزائري على تكريس أن تبون هو الذي يُنقذ العلاقات الجزائرية الفرنسية من غرقها المستمر. ويعمل جاهدا أيضا على تكريس القناعة بأن الاستقبال «الكبير» الذي حظي به تبون في الكرملين خُصص له شخصيا لا لمنصبه.
ضبط العلاقات بين الجزائر وفرنسا أكبر من رئيس ومن زيارة. إنها مثل رقصة التانغو تحتاج إلى اثنين، وإنه أمر بعيد ويزداد بُعدا.