ما حدث في
روسيا في الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو
2023، هزّ العالم كله، ودفع بالملايين من المهتمين بالسياسة لينشدّوا إلى قنوات
الإرسال ومصادر الأخبار، وذلك ليتابعوا حدث
تمرد قوات
فاغنر، واحتلالها لمدينة
روستوف، مركز القيادة الميدانية للقوات الروسية في حرب أوكرانيا، ثم خروج رتل من
دباباتها ومصفحاتها باتجاه موسكو، التي تحتاج إلى الوصول إليها لقطع 400 كيلومتر.
هذا الحدث هبط فجأة، ووضع روسيا أمام اشتباك عسكري بين
ما لا يقل عن 25 ألف مقاتل "فاغنري"، وبين الجيش الروسي الذي يواجه أخطر
ما يواجهه جيش من تمرد، قد يهدد بقتال داخلي لا يعرف أحد كم سيطول، وما ستكون
نتيجته، وما سيترك من آثار سلبية، سياسية وعسكرية وسمعة سيئة، فضلا عما سيسفكه من
دماء، ويُلحقُه من دمار، هذا وكيف والجيش الروسي منغمس في حرب عالمية في أوكرانيا،
في مواجهة 28 دولة من حلف الناتو، وعلى رأسها
الولايات المتحدة الأمريكية.
من يتابع مجريات الحراك الذي مثّله تمرد فاغنر طوال نهار
24 حزيران/ يونيو، ما كان له إلّا أن يتوقع انفجار حرب عسكرية يخوضها الجيش
الروسي، بادئا بقصف الرتل العسكري الطويل المتجه إلى موسكو، فيما سيواجه قوة
صاروخية جوية يمتلكها التمرد، مما يؤدي إلى تفجير معركة سحق من جانب الجيش الروسي،
وإلى قتال مستميت من جانب التمرد، وهو المشهور بشراسة مقاتليه، كما تجلوا في الحرب
في أوكرانيا.
كل التوقعات المعادية لروسيا سقطت مع النهاية التي أسفر عنها الاتفاق الذي رعاه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بين بوتين ويفغيني بريغوجين، قائد تنظيم فاغنر المتمرد، وذلك حين انتهى التمرد من دون هدر نقطة دم، ومن دون اشتباك عسكري داخلي، يزعزع الوضع الداخلي الروسي، ويهز تماسك الجيش الروسي في أوكرانيا. طبعا كانت هذه النهاية للتمرد مفاجِئة جدا، كما كان التمرد مفاجئا جدا، فقد جاءت النهاية متناقضة مع الأحداث والوقائع التي صاحبت التمرد، بل ومتناقضة مع كل تمرد سابق يشبه هذا التمرد.
طبعا، ما كان المحللون يستطيعون الانتظار والصبر يوما واحدا ليبنوا توقعاتهم على ضوء التطورات القادمة، وراحوا يتوقعون على ضوء المعركة
الآتية، فقدموا توقعات بعضها ذهب إلى القول: لا بد من أن يكون هنالك من سينضم
للتمرد
من قوات الجيش، مع تحريك للشارع الروسي من قِبَل منظمات الـ"إن جي أوز"
(المنظمات "غير الحكومية")، والمعدّة لمثل هذا اليوم، للثورة ضد
بوتين.
ولم يقصر معلقو القنوات الفضائية من أصحاب الهوى الغربي، بالحديث عن ضعف النظام
الروسي الدكتاتوري (وما زالوا بالرغم من هبوب الرياح منذ ليلة السبت/ الأحد على
غير ما كانوا يتوقعون).
بكلمة، كل التوقعات المعادية لروسيا سقطت مع النهاية
التي أسفر عنها
الاتفاق الذي رعاه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بين بوتين
ويفغيني
بريغوجين، قائد تنظيم فاغنر المتمرد، وذلك حين انتهى التمرد من دون هدر
نقطة دم، ومن دون اشتباك عسكري داخلي، يزعزع الوضع الداخلي الروسي، ويهز تماسك
الجيش الروسي في أوكرانيا. طبعاً كانت هذه النهاية للتمرد مفاجِئة جدا، كما كان
التمرد مفاجئا جدا، فقد جاءت النهاية متناقضة مع الأحداث والوقائع التي صاحبت
التمرد، بل ومتناقضة مع كل تمرد سابق يشبه هذا التمرد.
ولهذا، كان لا بد الآن من أن يصار إلى تفسير ما حدث،
بعيدا عن تخيلات "المسرحية المعدّة سلفا" من بوتين وبريغوجين. فالسؤال:
كيف يمكن تفسير خروج فاغنر بتمرد مسلح، بدأ باحتلال مدينة روستوف، والسيطرة على
مركز العمليات العسكرية الروسية التي تدير الحرب منها في أوكرانيا؟ وكيف يفسر تحرك
رتل طويل من مصفحات قوات فاغنر باتجاه موسكو، والوصول إلى بُعد مائتي كيلومتر
منها، دون التعرض لها من جهة، ومع ما جرى من استعدادات دفاعية لمواجهتها في حال
تطويق موسكو أو دخولها من جهة أخرى؟ وكيف يفسر تلافي كل ذلك الذي اتهم فيه بوتين
التمرد بالخيانة، وهدد بسحقه؟ ثم كيف يفسر انتهاء كل ذلك باتفاق مساومة، طُبّق
فورا، كأن التمرد كان "فصّ ملح وذاب"؟
والسؤال الأصعب: كيف يمكن تفسير ما حدث، من دون توفر
معلومات حوله، على مدى أسبوع من توقيع الاتفاق الذي نُفذ فعلا، وبأسرع مما طُبّق
من اتفاقات أنهت مواجهة عسكرية؟
هنا، يمكن التجرؤ على تقديم تفسير يعتمد على ما كان
متوفرا من وقائع سابقة للتمرد، بعيدا من أية معلومات، لا يملكها إلّا أصحابها أو
أهل الاختراقات من الكبار السحرة.
قوات فاغنر التي تشكلت لحرب أوكرانيا، تأسست من سجناء
سابقين، وآخرين أُفرج عنهم شرط الانخراط بها، وقد تزعّمها يفغيني بريغوجين الذي
اشتهر بأنه طباخ بوتين، وبأن ولاءه لبوتين. وستكون قواته عاملة بعيدا عن الجيش
الروسي، وأجهزة الأمن والسياسة الرسمية المعلنة.
وكانت في الأصل مثل قوات بلاك ووتر الأمريكية، وبالفعل
مارست نشاطات في عدة بلدان أفريقية وفي سوريا وغيرها، ثم جيء بها لتشارك في حرب
أوكرانيا بموازاة الجيش الروسي، وقد أبلت في القتال ما جعل قائدها بريغوجين يباهي
بها الجيش، ويتهمه بالتقصير في القتال، وفي إمدادها ودعمها عسكريا، خصوصا بالذخائر.
صدرت تصريحات علنية منذ شهرين وأكثر عن بريغوجين يهاجم
فيها وزير الدفاع وقائد هيئة الأركان، بما شكل منذ ذلك الحين تناقضا صارخا مع
الجيش، وكلاهما تحت إمرة بوتين. ولم يكن بريغوجين إلّا محرجا لبوتين، وهو يصدر
مثل تلك التصريحات التي زرعت إسفين عداء مع قيادة الجيش، وشكلت، بلا شك، إرباكا شديدا لبوتين، ولم يكن من الممكن حل هذا العداء بتهدئته أو حسمه من جانب بوتين إلّا
بالقوة ضد فاغنر وقائدها. وفاغنر وقائدها مستقلان عن الجيش، وتحت السلاح، ولا يملك
بوتين في هذه الحالة إلّا التأجيل، وعدم القدرة على الحسم، وإلّا فالمواجهة
العسكرية إذا كان سيقف مع الجيش، وهو الأصل والأهم والأقرب إليه.
التمرد كان عملا "انتحاريا" مغامرا، مما وضع بوتين والجيش أمام خيارين: إما خوض معركة مسلحة قتالية تسحق التمرد، ومن ثم إدخال البلاد في مرحلة من القتال الدموي الداخلي، لا يُعلم كم ستطول، فيما جيش التمرد في قلب روستوف، كما في أحياء مدنية على طريق موسكو. وإما القبول بالصفقة التي حملها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بالاتفاق المسبق بالتأكيد مع بوتين.
أُعلِن منذ شهرين، كجزء مما وصل إليه الصراع بين قيادة
الجيش وقيادة فاغنر، إنهاء خدمات فاغنر في أوكرانيا، ولكن مع بقاء الصراع على
أشده. وهنا لا بد من أن يطالب قائد فاغنر بعدم المحاسبة عما صدر منه بحق الجيش، وبالخروج
الآمن، وإيجاد حلّ مشرف لقواته التي شُكلت لحرب أوكرانيا. وهو ما لم يستجب له أمام
إصرار الجيش (استنتاجا) على محاسبته ومحاكمته، وأمام عدم قدرة بوتين على إيجاد
حل.
لم يكن من السهل على بوتين مخالفة الجيش بتلبية مطالب
قائد فاغنر، وربما يكون هو نفسه قد وجد في موقفه تماديا عليه أيضا، وليس على
الجيش فقط. وهذا يفسر لماذا لم يحسم بوتين مع فاغنر حتى إعلان التمرد.
وبهذا، تكون الرياح في هذا الصراع قد أخذت تهبّ ضد قائد
فاغنر، واقتربت نهايته بالمثول أمام القضاء، فضلا عن وقف المساعدات التي تحتاجها قواته
المرابطة بلا عمل في أوكرانيا.
هنا، ما كان من مفر أمام بريغوجين إلّا أن يعلن التمرد،
ويحرك قواته كما حدث في الرابع والعشرين من الشهر الجاري (حزيران/ يونيو). وهو
تمرد بلا هدف سياسي، ولا هو مقدمة لهدف سياسي، وإنما كان دافعه إنقاذ رأسه مما يمكن
أن توجّه إليه من تهم، كما إيجاد حلّ مرضٍ لقواته التي أصبحت بدورها تحت رحمة
الجيش، وانحياز بوتين للجيش.
فالتمرد كان عملا "انتحاريا" مغامرا، مما
وضع بوتين والجيش أمام خيارين: إما خوض معركة مسلحة قتالية تسحق التمرد، ومن ثم
إدخال البلاد في مرحلة من القتال الدموي الداخلي، لا يُعلم كم ستطول، فيما جيش
التمرد في قلب روستوف، كما في أحياء مدنية على طريق موسكو. وإما القبول بالصفقة
التي حملها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بالاتفاق المسبق بالتأكيد مع
بوتين.
ما سيثبت لاحقا صحة الخيار الذي اتخذه بوتين في قبول شروط بريغوجين بتأمين العفو العام له ولقواته، كما الخروج الآمن له، وضمان حلّ مشرف لقواته، ضمن الجيش الروسي أو حلول أخرى، إنما هو مستقبل الصراع في أوكرانيا، كما محافظة بوتين على قيادته لروسيا، وهما اللذان سيثبتان أيضا صحة الأخذ بالصفقة.
وبكلمة، وبكل المقاييس، مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة ولا قانونية معارضة رغبة قيادة الجيش، فإن تلك الصفقة أفضل من الدخول في حسم
عسكري؛ حفاظا على هيبة بوتين وقيادة الجيش (سواء مستها الصفقة أيضا أم لم
تمسّها). وهي أفضل بالنسبة إلى بوتين وحربه في أوكرانيا، بالرغم مما سيحاول خصومه
تأويلها ضده، بالضعف وغيره. هنا تغلبت الحكمة، وبُعد النظر، على الهيبة والعنفوان.
وإن ما سيثبت لاحقا صحة الخيار الذي اتخذه بوتين في قبول شروط بريغوجين بتأمين العفو العام له ولقواته، كما الخروج الآمن له، وضمان حلّ مشرف لقواته، ضمن الجيش الروسي أو حلول أخرى، إنما هو مستقبل الصراع في أوكرانيا، كما محافظة بوتين على قيادته لروسيا، وهما اللذان سيثبتان أيضا صحة الأخذ بالصفقة.
وأخيرا، يجب الانتباه من قِبَل كل من سيأخذ دليلا من
تمرد فاغنر على وجود تصدّعات مماثلة في الدولة أو المجتمع، بأن مجموعة فاغنر لا
تمتّ إلى مؤسسات الدولة ولا إلى فئة من المجتمع بصلة، وإنما هي ممثلة لسجناء صدرت
بحقهم أحكام جنائية، وقد جُنّدوا لأغراض عسكرية، ومن ثم هي حالة شديدة الخصوصية.