في خطاب ألقاه في عام 1986، قال الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان إن ما نعدّه أمراً عادياً في أميركا، هو في الحقيقة أشبه بمعجزة. ريغان كان يعني بذلك تسليم السلطة سلمياً في أميركا من رئيس إلى رئيس. ذلك الأمر الذي اعتبره عادياً، ويعد حقاً أساس وجوهر العملية السياسية الديمقراطية الأميركية، كاد ينهار فجأة، في يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021، حين هجم أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب على مبنى الكونغرس، بهدف وقف التصديق على نتيجة
الانتخابات الرئاسية، والاعتراف بالرئيس المنتخب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة. ذلك المشهد كان منقولاً على الهواء، وعلى مرأى ومسمع من العالم.
وراء تلك الموجة الاحتجاجية غير المعهودة في تاريخ أميركا، كان عدم اعتراف الرئيس السابق ترمب بنتيجة الانتخابات، والادعاء بالتزوير. ترمب سجل موقفه رسمياً برفضه حضور مراسم حفل تتويج الرئيس الجديد، حسب التقاليد المتبعة. وواصل الادعاء بتزوير الانتخابات، إلى يومنا هذا.
الآن، وعلى بعد مسافة زمنية تقدر بعام ونصف، من موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، يواجه ترمب، وستة أشخاص آخرون، من أعضاء إدارته السابقة، لم تعلن أسماؤهم بعد، تهمة التآمر لمنع انتقال السلطة، بعد الخسارة الانتخابية.
لكن ترمب، يتقدم حالياً غيره من مرشحي
الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية المقبلة، ومن المحتمل جداً بروزه مرشحاً للحزب. واستبيانات الرأي العام تضعه على قدم المساواة تقريباً في النقاط مع الرئيس الحالي جو بايدن. ووقوفه مؤخراً أمام العدالة، في محكمة عقدت بواشنطن، لنفي أو الاعتراف بالتهمة الموجهة له، ونفاها بشدة، رفعت من درجة حرارة الصراع السياسي في أميركا إلى درجة غير معهودة. ترمب، وقادة الحزب الجمهوري وأنصاره في مختلف الولايات، يرون أن الإدارة الأميركية تكيل بمكيالين، فهي في الوقت الذي تتساهل فيه مع نجل الرئيس جو بايدن، المتهم في قضايا تهرّب من دفع الضرائب وغيرها، تسعى جاهدة إلى إدانة ترمب، بهدف إبعاده عن الوصول ثانية إلى البيت الأبيض. المفارقة أن ارتفعت أسهمه بشكل ملحوظ مؤخراً، نتيجة ما يحدث.
الرئيس جو بايدن نأى بنفسه عن التعليق على الأمر، وبقي المجال مشرع الأبواب أمام خبراء القانون، للخوض في تفاصيله المعقدة. فريق الدفاع القانوني عن المرشح ترمب رفض بشدة قرار مكتب النيابة بالبدء في
المحاكمة في شهر مايو (أيار) القادم. ورأى أن مكتب النائب العام استغرقه الأمر ثلاث سنوات للانتهاء من التحقيقات، والوصول إلى قرار بتوجيه التهمة لترمب. ومن حقه أن يُمنح الفرصة لإعداد دفاعه. وبدوره، تساءل المرشح ترمب عن الأسباب التي دفعت بالنيابة إلى تجاهل الأمر مدة عامين ونصف، وإحضاره الآن؟ مكتب النائب العام يُصرّ على سرعة عقد المحاكمة في الوقت الذي اختاره. المحاكمة ستعقد في ولاية واشنطن. وهي ولاية معروفة بولائها للحزب الديمقراطي. الأمر الذي يلقي بظلال من شك حول مصداقية هيئة المحلفين. لذات السبب، طالب فريق الدفاع القانوني عن ترمب نقل مكان المحاكمة إلى ويست فرجينيا، وهي ولاية محافظة، معروفة بولائها للحزب الجمهوري.
قد تبدو هذه التفاصيل كثيرة، وأن الكثير من الأسئلة حول المحاكمة ونتائجها على المتهم الرئيسي، وعلى الانتخابات الأميركية المقبلة، لم تجد لها إجابات. وهذا طبيعي. كون المحاكمة من دون سوابق لها يسترشد بها. وتتعرض لجوهر الديمقراطية الأميركية منذ نشأتها. والتهمة تتجاوز بكثير ما عرفته المحاكم الأميركية من قضايا سابقة عقدت في قاعاتها، ذات صلة برؤساء سابقين. ومن خلال المتابعة والرصد لما ينشر في وسائل الإعلام الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، تبين أن الثقل، في المواجهة القضائية المقبلة، سيكون على كاهل النيابة في إثبات أن الرئيس السابق كان على علم ومعرفة بخسارته الانتخابات الرئاسية، وأنه عمداً اختار تجاهل تلك الحقيقة، وواصل تضليل الرأي العام الأميركي بالادعاء بعكس ذلك، بهدف منع انتقال السلطة سلمياً. وزعزع ثقة المواطن الأميركي بنظامه السياسي.
في الشهور الماضية، تابعنا على القنوات التلفزيونية التحقيقات التي قامت بها لجنة من الكونغرس في نفس القضية. ومن بين الشهود الذين مثلوا أمامها مسؤولون بارزون في إدارة الرئيس ترمب، واعترفوا أمامها بنزاهة الانتخابات وبخسارة الرئيس السابق ترمب. ولذلك، فإنه ليس بمقدور أحد، حتى الآن، التكهن بالمسار الذي ستتجه نحوه التطورات. وليس بمقدور أحد أيضاً التنبؤ بالمصير الذي ينتظر الرئيس السابق ترمب.
المحاكمة لن تكون حائلاً بين ترمب ودخول المعترك الانتخابي الرئاسي في شهر نوفمبر 2024. ويرى معلقون أنّه في حالة تجاوزه العقبة الانتخابية، واستمرار المحاكمة إلى ذلك الوقت، وهو متوقع، لأن فريق دفاعه سيلجأ إلى تطويل أمد المحاكمة. سيكون من ضمن قرارته الأولى، تعيين نائب عام، يقوم بدوره بإيقاف النظر في القضية إلى وقت آخر. السؤال: ماذا سيكون مصير ترمب لو تعثر حظه، وسقط في الامتحان الانتخابي الرئاسي؟
(عن صحيفة الشرق الأوسط)