لا يوجد أخطر على الوجدان الثوري العام، من منطق جماعات
"المتأملين في الفراغ"، الذين يدعون الحكمة بأثر رجعي، ومن ثم فهم من
واقع المتأمل الذي يضع رجليه في الماء، يعطون دروساً للثوار، فكيف لهم أن يسلموا
بقرار "الرئيس المخلوع" تسليم السلطة للمجلس العسكري!
هذا التأمل في الفراغ الذي هو على "مدد الشوف"، أنتج من
قبل مقولة إن الثوار أخطأوا عندما تركوا ميدان التحرير، قبل اكتمال أهداف
الثورة،
ونقرأ عن أصوات طالبت الثوار بالبقاء في الميدان، لكن في الحقيقة لم نسمع بهذه
الأصوات عندما أعلن مبارك تخليه عن السلطة!
عدم اكتمال الصورة في بعض الأذهان، هو الذي ساهم في وجود تشكيل
"المتأملين في الفراغ"، الذين يفتون في أمر الثورة، دون أن تتوفر لديهم
المعلومات الكاملة، وفي هذا يقول
المصريون بتصرف: "من لا يعرف يقل عدساً"!
عندما تنحى مبارك، كان جل الثوار أمام القصر الرئاسي، مع أقلية تمسكت
بالاستمرار في ميدان التحرير، باعتباره أرضاً محررة، وإن كان "وائل
غنيم" وأصحابه تنحى مبارك وهم في منزل وائل، وهناك تعانقوا وقدموا التهنئة
بعضهم لبعض.
جو ميدان التحرير
وصلت ميدان التحرير قادماً من القصر الجمهوري بصعوبة، فقد بدت مصر
كلها كما لو كانت خرجت للشارع ومتجهة إلى ميدان الثورة، وبدخولي الميدان وجدت
جماهير غفيرة وأسرا كاملة، جاءت للاحتفال، وسبقني إلى هناك من سبق له أن هتف
باكياً: "مبارك هذا والدنا، وحرام إهانته".
وجاء من لم يعيشوا "أخلاق الميدان"، فكانوا في مرورهم
يدفعون الذين أمامهم، وعند أول عملية دفع، كنت على يقين أننا أمام طوفان من البشر،
جاؤوا للميدان ويفتقدون أخلاقه، وقد كنت على مدى ثمانية عشر يوماً، هي عمر الثورة،
أتحرك داخل الميدان بمرونة مع زحامه، إذ كان مثالاً حياً لدعوة "لينوا
لإخوانكم"!
فمن ذا الذي يمكنه في هذه الأجواء الاحتفالية الصاخبة أن يصعد للمنصة
ويدعو الناس للبقاء في ميدان التحرير حتى تتحقق أهداف الثورة؟.. وحتى من شاركوا في
الثورة، كان قد استبد بهم اليأس، ونال منهم التعب، فانحصرت كل جهودهم في إسقاط
الرئيس لا النظام، ثم إن النظام بدأ في السقوط، منذ عزل مراكز القوى من الحزب
الوطني، وحل مجلسي الشعب والشورى، فماذا بقي من نظام مبارك؟ الجيش؟.
ثورة يناير لم يتزعمها حزب أو فرد، لكي يتحرك إلى القصر الجمهوري
ليمثل البديل، ولا يرضى بخيار المخلوع وفرض الأمر الواقع، فهذه الثورة أفرزت مطالب
ولم تنتج زعامات، وقد وجه المجلس الأعلى للقوات المسلحة التحية في هذه الليلة
لشهداء الثورة، ووعد بتسليم السلطة خلال ستة شهور، وإن اعتقد أنه يمكنه أن يحتفظ
بها، وناور على مدى سنة إضافية، فقد أجبرته الثورة على الفرار غير المنظم من
الحكم، وكانت الانتخابات الرئاسية!
ثورة يناير لم يتزعمها حزب أو فرد، لكي يتحرك إلى القصر الجمهوري ليمثل البديل، ولا يرضى بخيار المخلوع وفرض الأمر الواقع، فهذه الثورة أفرزت مطالب ولم تنتج زعامات، وقد وجه المجلس الأعلى للقوات المسلحة التحية في هذه الليلة لشهداء الثورة، ووعد بتسليم السلطة خلال ستة شهور،
وإذا كان هناك من يرون أنه من الخطأ بمكان الجري للانتخابات سواء
البرلمانية أو الرئاسية، فإني وقد كنت مبكراً من أصحاب دعوة التبكير بالانتخابات،
لا زلت أعتقد أن هذا هو
الرأي الصحيح إلى الآن، لأنه لم يكن هناك بديل مطروح
لانتقال السلطة إلا بذلك، ويؤسفني أن الطرف الرافض للمسار الانتخابي، لم يكن لديه
بديلاً، وقد بدا المجلس العسكري طامعاً في السلطة، ويطمع أن يزيد، وعندما طرح
الميدان في فترة لاحقة مجلسا رئاسيا، من وجهاء الحركة السياسية، كان الرفض على
الهواء، وفي ذات اللحظة من أسماء ذكرت.. حمدين صباحي مثلاً!
ثم إن الميدان في المرحلة الأولى بعد التنحي، كان يسيطر عليه من يبحثون
عن حظوة لدى المجلس العسكري، فأدخلوا الغش والتدليس على خياره السيء بتعيين عصام
شرف رئيساً للحكومة، وقيل يومئذ إنه قادم من ميدان التحرير، مع أنه قادم من لجنة
السياسات!
سقوط حكم العسكر
ونأتي إلى المشكلة الأكثر عمقاً، وهو أنه بعيداً عن الدعاية في أيام الثورة
وقبلها بسقوط حكم العسكر، فلم يكن الوجدان النضالي العام يتأمل الفكرة، فالحكم
العسكري ليس بمعناه الآن، ولكنه كان يعني رأس السلطة، ولهذا كان من يقودون هذا
الهتاف في بعض الأحيان ناصريون، هم في الأساس ليست لديهم مشكلة مع حكم العسكر، وقد
كان عبد الناصر ضابطاً، قاد انقلاباً عسكرياً في سنة 1952!
وهناك نقطة غائبة عن الأذهان، وهي أن "الانكشاف" الحالي،
لم يكن في أيام الثورة، ذلك بأن الجيش كان بعيداً عن الحكم فعلاً، فلا يشتبك معك
في الشارع، ولا يتدخل في الممارسة السياسية، ولا يستدعى لفض مظاهرة، منذ التدخل
لإنهاء مظاهرات الخبز سنة 1977، ونزوله مرة أخرى للتصدي لتمرد الأمن المركزي سنة
1986، وفي المرتين كان نزوله مرحباً به، فلم يحدث بينه وبين المتظاهرين اشتباك في
الأولى، أما في الثانية فقد كان يؤدي مهمة وطنية!
لقد أنهى عبد الناصر الحكم العسكري تماماً بعد سنة 1968، وحكم حكماً
منفرداً، ومن كانوا جزءاً من سياقات الحكم منذ هذا التاريخ من العسكريين لا يعطون
دلالة على أنه حكم عسكري، وهو الحكم الذي ألغى
السياسة، وأسس لدولة التكنوقراط،
فقد كان وجودهم ضمن هيكل عام، يضم أساتذة جامعات، وقضاة وضباط شرطة سابقين، وكبار
الموظفين في الإدارة المحلية، ولم يكن الحكم واضحاً في تشكيلات الحكومة، التي ظل
قوامها مدنيون في كل التشكيلات، وإن أصبح الأمر واضحاً في تعيينات المحافظين، فقد
كان نصيبهم في المحافظات الحدودية، مثل سيناء، والبحر الأحمر، وقنا، في حين كان
محافظ العاصمة "القاهرة" لفترة طويلة ليس عسكرياً.
فقد كان محمود الشريف طبيباً، جاء بعده عمر عبد الآخر من الإدارة
المحلية، ثم عبد الرحيم شحاتة وهو أستاذ جامعي، بينما محافظة كسوهاج تبادل عليها
لواءات سابقين بالشرطة، وكذلك أسيوط بسبب وجود الجامعات الدينية بالمحافظتين!
الحكم العسكري ليس بمعناه الآن، ولكنه كان يعني رأس السلطة، ولهذا كان من يقودون هذا الهتاف في بعض الأحيان ناصريون، هم في الأساس ليست لديهم مشكلة مع حكم العسكر، وقد كان عبد الناصر ضابطاً، قاد انقلاباً عسكرياً في سنة 1952!
عهد عبد الناصر الذي شهد تمكيناً لأجهزة عسكرية، كالمخابرات الحربية،
والمخابرات العامة، من الحياة العامة، وهو نفسه العهد الذي شهد إنهاء هذه السيطرة،
وكانت قضية انحراف المخابرات، وعبد الناصر هو من هتف: سقطت دولة المخابرات، ليس
لأنه كان في طور التحول إلى حاكم ديمقراطي، ولكن للحفاظ على حكمه من الانقلاب
العسكري عليه، وقد كان هذا مطروحاً في زمن عبد الحكيم عامر، وشمس بدران، وصلاح نصر.
وعبد الناصر هو من حل مجلس قيادة الثورة، ثم حل مجلس الرئاسة بعد أن
همشه، واستدار لينتقم من رفاقه في الثورة، ولم تكن البداية بتصفية عبد الحكيم عامر
وسجن رجاله!
وانكفأ جهاز المخابرات العامة على نفسه، فتحول إلى جهاز مهني، وبنى
سمعته بعد ما نالها من اتهامات موجهة إلى صلاح نصر، وكان عبد الناصر حريصاً على
ابعاد ملف التعذيب من المحاكمات، وإن ركز على العلاقات النسائية، فإنه يعرف أين
يوجعه، مع مجتمع محافظ، ولأنه لم يكن منفعلاً ضد انتهاكات السجون، التي هي من أساس
حكمه!
وفي الاقتصاد، فإن كانت هناك مشروعات تخص القوات المسلحة، فقد كان
المعروف منها هو شركات الاستيراد التابعة لجهاز المخابرات مثلاً، لم يكن هذا
النشاط مزعجاً لأنه لم يكن مستفحلا من ناحية، ولأنه لم يكن منافساً لاقتصاد الناس!
نثق في مؤسسة الجيش
ولهذا البعد عن دائرة الحكم، ميز الناس بين نظام الحكم والجيش، وكانت
هناك نغمة "نحن نثق في مؤسسة الجيش"، وظلت العبارة تتردد على ألسنة
الناصريين حتى حصل التفريط في تيران وصنافير، فوسوس كل منهم في أذن صاحبه بما يعبر
عن دهشته!
وهذه الرؤية التي صاحبت الناصريين لهذا الوقت المتأخر، كانت تشمل
جميع المصريين وقت قيام الثورة، ولهذا كان الاستقبال التاريخي لمصفحات الجيش
العابرة لميدان التحرير في الليلة الأولى من الثورة، فقالوا إنها جاءت لتتصدى
للشرطة في عنفها ضد المتظاهرين. يا لها من سذاجة!
المشكلة ليست في من سلم بقرار مبارك الذي يعد موضوعيا إلى الآن، ولكن من عاصروا سوء إدارة المجلس العسكري للمشهد، ورغبته في الاستمرار في السلطة، وعدم اخلاصه للثورة، وخرجوا يهتفون بسقوط حكمه، ثم في أقل من سنة من هذه المغادرة، كانوا يطالبون وزير الدفاع بتخليصهم من الحكم المدني المنتخب، على أمل أن يسلم الحكم لحمدين صباحي!
بيد أن التميز الأكثر رشدا، هو بين الجيش ككيان مهمته حماية حدود
الوطن، وبين كونه سلطة حكم، حدث بعد أن تبدت للناظرين رغبة المشير طنطاوي في
الاستمرار في السلطة، فكان الهتاف الواعي لأول مرة بسقوط حكم العسكر!
ومع أني كنت واعياً تماماً بأن وزير الدفاع ورجاله هم في مواقعهم
باختيار مبارك وفق مقاييسه، وأن ولاءهم إن لم يكن له فأرى أن النكران يسيء إليهم،
ومع هذا يظل قرار اختيارهم لإدارة المرحلة هو فن الممكن، فالثورة لم تنتج زعيماً
تدفع به لاستلام السلطة ورفض قرار مبارك، فضلاً عن أن المجلس العسكري بدا واعياً
لإرادة المصريين فكانت تحية الشهداء، ثم إنه قال سوف يغادر بعد ست شهور، فلما طمع
في الاستمرار كنت من بين الذين عارضوا ذلك!
والمشكلة ليست في من سلم بقرار مبارك الذي يعد موضوعيا إلى الآن،
ولكن من عاصروا سوء إدارة المجلس العسكري للمشهد، ورغبته في الاستمرار في السلطة،
وعدم اخلاصه للثورة، وخرجوا يهتفون بسقوط حكمه، ثم في أقل من سنة من هذه المغادرة،
كانوا يطالبون وزير الدفاع بتخليصهم من الحكم المدني المنتخب، على أمل أن يسلم
الحكم لحمدين صباحي!
هؤلاء هم المغفلون حقاً!