قضايا وآراء

الإخوان وحادث المنشية في مذكرات يهودي مصري

ميزة رواية أو شهادة ألبير هنا أنها تكمل الصورة لدينا، فهي تبين كيف اعترف هنداوي دوير بتدبيره مقتل عبد الناصر..
نشرت مؤخرا مذكرات أحد رموز الشيوعيين في مصر، وهو (ألبير آريه)، تحت عنوان: مذكرات يهودي مصري. وألبير آريه يهودي مصري إلا أنه أسلم فيما بعد، وإن لم يكتب عن الأسباب الجوهرية التي جعلته يغير ديانته من اليهودية للإسلام، وانضم في فترة شبابه للتنظيم الشيوعي، وكان والده من أغنياء اليهود المصريين، ودخل السجن بتهمة الانضمام للشيوعية.

وإن تحدث ألبير عن اطلاعه المستمر على الكتب السماوية، فقد كان أول ما طلبه في السجن: ترجمات للكتب السماوية الثلاثة، حيث قال: (كان مسموحا لنا فقط بالكتب الدينية، وطلبت من والدي مصحفا باللغة الإنجليزية، وطلبت أيضا توراة وإنجيلا، وكان الإنجيل بالإنجليزية، أما التوراة فكانت بالفرنسية، ولكني فشلت في قراءة القرآن بالإنجليزية، وتأكدت أنه من المستحيل قراءة القرآن إلا باللغة العربية مهما كانت جودة الترجمة).

دور المذكرات في توضيح التاريخ

وتمثل مذكراته ألبير آريه أهمية كبرى للذاكرة التاريخية المصرية المعاصرة، في عدة مساحات مهمة، لأنه يحكي عن مساحات في تاريخ الشيوعيين في مصر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد التقى الإخوان المسلمين في السجون، سواء الأفراد العاديين، أو القيادات المهمة منهم، وتكون لديه انطباع عنهم، ورأى أحداثا متعلقة بهم، في اعتقادي كأحد المهتمين بتاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة، وفي القلب منها الإخوان، أعتقد أن مذكرات ألبير آريه تضيف إضافة مهمة، وتملأ مساحات فارغة مطلوبة للباحث في تاريخ الإخوان.

وكنت من قبل قد كتبت مقالات على موقع عربي21، عن تاريخ الإخوان، وعن الشخصيات والأحداث التي كانت مثار جدل في الجماعة، وذكرت من الشخصيات: هنداوي دوير، ومن الأحداث: حادث المنشية الذي اتهم فيه الإخوان بقتل عبد الناصر، وانتهيت في موقفي منها: أنها لم تكن تمثيلية مائة بالمائة، ولم تكن بتخطيط تنظيم الإخوان أيضا مائة بالمائة.

وهكذا نرى كثيرا من أحداث التاريخ، يتصورها من يروونها، وبخاصة من عاشوها، كل من زاويته، ويظن أنها الحقيقة الكاملة، بينما المتناول للأحداث بإنصاف، وبخاصة من يأخذ مسافة ليراها جيدا، سيرى أن كل الروايات عند ضم بعضها البعض، تتكون الصورة الأقرب للحقيقة، ولا أقول: إنها الحقيقة الكاملة التي لا خلاف عليها، وفي مذكرات ألبير نجد خيطا مهما يعرفنا بتفاصيل الاعترافات التي تمت من المتهمين في السجن، في قضية حادث المنشية، واتهام الإخوان، وإعدام عدد منهم بسببها، وهو ما لم تذكره كتب المذكرات الإخوانية.

معلومات مهمة عن اعترافات هنداوي دوير

يقول ألبير في مذكراته ص: 199: (استمرت الأمور عادية حتى حدوث محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية يوم 26 أكتوبر 1954، وعرفنا أنه تم القبض على الإخوان وتعذيبهم، وتم تقديمهم لمحاكمة الشعب، وكانت قضية كبيرة، في أثناء عملية القبض الموسعة والعشوائية على الإخوان، تم القبض على مجموعة من الشيوعيين أثناء التفيش في الشقق، وقبض على اللجنة المركزية المؤقتة التي كانت مكونة من أربعة أشخاص.

على الرغم من تميز فترة تواجدنا في السجن الحربي بالقسوة في المعاملة، فإن فترة وجود الإخوان هناك شهدت معاملة أقسى بكثير، وتم ابتكار أساليب جديدة للتعذيب أكثر وحشية مثل (النفخ). وعندما تم القبض على مسؤول خلية إمبابة: هنداوي دوير، المسؤول المباشر عن تدريب محمود عبد اللطيف الذي حاول قتل جمال عبد الناصر، استخدموا القسوة وحينما صمد ولم يعترف أحضروا زوجته، وكانت مريضة، وقاموا بتعريتها والتهديد باغتصابها أمامه، فلم يتحمل وانهار، واعترف بكل شيء، اعترافات الإخوان كلها كانت تحت تأثير التعذيب، ومن لم يعترف منهم تم قتله).

كم من مذكرات أخرى لغير الإخوان، تملأ مساحات من الفراغ، أو السهو، أو الخطأ، عندما نعود إليها منصفين دون تعصب، وأحيانا تكون فقرة في كتاب، أو سطرا، لكنه يكون مفتاحا للغز ظل مغلقا، لأن العقول أغلقت على قراءته من جهة واحدة، أو من جهات متعددة لكنها في سياق واحد.
فهذه شهادة من شخص لا يتهم بمحاباة أو مجاملة الإخوان، وفي قضية كبيرة، وميزة رواية أو شهادة ألبير هنا، أنها تكمل الصورة لدينا، فهي تبين كيف اعترف هنداوي دوير بتدبيره مقتل عبد الناصر، والذي بعد اعترافه تحت التعذيب والتهديد، ووقت الحكم في ساحة المحكمة عليه بالإعدام، صرخ فقال: لم نتفق على ذلك. ففهم الإخوان أنه اتفق مع السلطة على الشهادة على الإخوان ليتحول شاهد ملك، ويتم تبرئته، وظلت هذه الرواية وحدها هي التي تعتمدها كتب الإخوان المعتمدة تنظيميا، أو من الفريق الذي كان على خلاف مع التنظيم الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي، وقد كان محسوبا عليه: هنداوي دوير.

فرأينا ذلك في كتاب: (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) لمحمود عبد الحليم رحمه الله، وفي مذكرات شيخنا القرضاوي (ابن القرية والكتاب) الجزء الثاني منها، ومعظم المذكرات والكتب التي تعرضت للحادثة تبنت هذا الرأي، بناء على رفضهم ما قام به التنظيم الخاص، من السعي لاغتيال عبد الناصر دون علم للتنظيم نفسه، وقياداته.

كان كلام محمود عبد الحليم والقرضاوي وغيرهما شديدا بحق هنداوي، وأنه كان موتورا وعصبيا، وأن صاحب مثل هذا الخلق سرعان ما يهتز ويعترف، وكنت قد قابلت الحاج محمد نجيب أحد قدامى الإخوان، وقد كان في شعبة إمبابة للإخوان المسلمين، وقد قال لي طرفا مما حدث لهنداوي وأنهم هددوه بزوجته، ولم يذكر التفاصيل التي ذكرها ألبير في مذكراته.

فلو أننا هنا قمنا بضم كلام الإخوان المسؤولين رسميا عن التنظيم، في هذه الحادثة تحديدا، ووضعنا شهاداتهم جميعا، والتي لم تكن على علم بالحادث، ولا تمت بتكليف منهم، ثم معرفة الدكتور عبد العزيز كامل بالأمر، وذهب لإبلاغ البوليس بذلك، لإخلاء مسؤولية الإخوان عن الأمر، وهذا ما شهد به آخرون، وهو عبد المحسن أبو النور ـ أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، والذي قام بالتحقيق مع أنور السادات عن سر تأخره ليلة الثورة عن الموعد المحدد ـ في لقاء معه في التلفزيون المصري بمناسبة مرور خمسين عاما على ثورة يوليو.

ثم ما كتبه صالح أبو رقيق في تعليقه على كتاب: (الإخوان المسلمون) لريتشارد ميشيل، وترجمه الدكتور محمود أبو السعود، وما اعترفه به حسن التهامي من أن خبيرا إعلاميا أمريكيا أشار على عبد الناصر بأنه لا بد من حدث يظهر فيه بطولته للشعب، سنكتشف أن الحدث في النهاية لم يكن بعلم القيادات الإخوانية رسميا، ولكنه كان تصرفا فرديا، واكتشف قبل التنفيذ بتبليغ مسؤولة التربية في الإخوان عبد العزيز كامل بنفسه، لإبراء ساحتهم، ولكن السلطة وظفت الموضوع، وأكملته برؤيتها، وهو ما جعل المتهمين: محمود عبد اللطيف، وهنداوي دوير، يرفضان الاعتراف تحت التعذيب، ولكن هنداوي تحت التهديد بشرفه وعرضه، اعترف، وكان لا بد من إعدامه ليموت معه سره، إلى آخر التفاصيل التي تملأ بقية الحدث التاريخي الذي سيق الآلاف من الإخوان، وأعدم من لا صلة لهم به.

وكم من مذكرات أخرى لغير الإخوان، تملأ مساحات من الفراغ، أو السهو، أو الخطأ، عندما نعود إليها منصفين دون تعصب، وأحيانا تكون فقرة في كتاب، أو سطرا، لكنه يكون مفتاحا للغز ظل مغلقا، لأن العقول أغلقت على قراءته من جهة واحدة، أو من جهات متعددة لكنها في سياق واحد.

وهناك مساحات أخرى في مذكرات ألبير، وقف أمامها مستغربا موقف الإخوان، وموقف مرشدهم السابق مهدي عاكف، من أعضاء خلية نفذت عملية (لافون) وهو التفجير الذي حدث سنة 1954 في القاهرة، وذلك حينما أودعوا السجن الحربي مع الإخوان والشيوعيين، وهو ما نتناوله في مقالنا المقبل إن شاء الله.

Essamt74@hotmail.com