ملفات وتقارير

شبح الجفاف يخنق العراق.. كيف أصبحت "بلاد الرافدين" مهددة بالتصحر؟

فقد العراق 70 بالمئة من وارداته المائية بسبب سياسات دول الجوار- جيتي
طالما لازم اسم "بلاد الرافدين أو النهرين" العراق، للدلالة على الهبة العظيمة التي يتمتع بها البلد بمرور نهري دجلة والفرات من خلاله، إذ تتوسطان خريطته بدءا من دجلة من الشمال والفرات الذي يشق طريقه غربا قادما من سوريا، حتى يلتقيا ويصبا في شط العرب أقصى جنوب العراق.

لكن هذه الميزة باتت مهددة بالزوال خلال السنوات الأخيرة، إذ يخنق الجفاف النهرين الكبيرين ويوشك أن يحولهما إلى جداول مائية بسيطة في كثير من المناطق، مع تعاظم الخوف من أن يصبح الفرات ودجلة شيئا من الماضي.

وتؤكد ذلك الصور التي تصدم العراقيين كل عام، فدجلة الذي يشطر بغداد نصفين أصبح بالإمكان عبوره مشيا في بعض المناطق، وكذلك الفرات الذي بات ينحسر عن ضفافه بشكل مرعب في الأنبار، فضلا عن جفاف الأهوار جنوبا، وموت الكثير من الجداول والبحيرات في عدة محافظات في البلاد.


عربي21 وثقت مظاهر الجفاف في العراق، ورصدت أسباب وتأثيرات الأزمة على البلاد.



دجلة
يعد دجلة أحد أهم أنهار منطقة الهلال الخصيب، حيث يمد المدن التي يمر بها في تركيا وسوريا والعراق بالمياه العذبة إذ يعتمد عليه سكان المناطق المحيطة به كمصدر رئيسي لمياه الشرب، فضلا عن الزراعة وإنتاج الطاقة الكهربائية من خلال السدود المقامة عليه.


ينبع دجلة من المناطق الجبلية التي تحيط ببحيرة هازار التركية، حيث يبلغ طوله 1750 كم منها 1400 كم في الأراضي العراقية، حيث يمر بشمال شرق سوريا قبل دخوله العراق عند بلدة فيش خابور، ثم يلتقي بنهر الفرات ويصب في الخليج العربي.

تصب فيه العديد من الروافد في تركيا وإيران والعراق أهمها:
الخابور 
الزاب الكبير
الزاب الصغير
نهر العظيم
نهر ديالى


ويمر بمدن عراقية أهمها: الموصل، بعقوبة، بيجي، تكريت، سامراء، بغداد، الكوت، العمارة.

الفرات
يعتبر نهر الفرات رديفا لدجلة حيث ينبع من جبال طوروس في تركيا ويتشكل من رافدين أساسيين هما مراد صو وكرا صو، قبل أن يتجه جنوبا نحو سوريا.

يصل طول الفرات الكلي إلى نحو 3000 كم منها 1160 كم في الأراضي العراقية التي يدخلها من مدينة القائم غرب البلاد بعد مروره بعدة مدن سورية.

ويمر الفرات بمحافظة بابل عندها يتفرع منه شط الحلة ثم يتجه إلى كربلاء والنجف والديوانية وذي قار حيث يتوسع مشكلا الأهوار قبل أن يتحد مع دجلة لتكوين شط العرب الذي يصب في الخليج العربي.


عقدة المنبع والمصب
تواجه كلا من تركيا وإيران اتهامات بالتسبب بأزمة الجفاف في العراق عبر بناء العديد من السدود وحجب الروافد المائية التي تصب في الأراضي العراقية.

وكشفت الحكومة العراقية أواخر 2021 عن انخفاض كميات المياه الواردة من تركيا وإيران بنسبة تصل إلى 50 بالمئة، نتيجة بناء العديد من السدود والمشاريع على منابع نهري دجلة والفرات.

في حزيران/ يونيو 2022 هدد حاكم الزاملي النائب الأول لرئيس البرلمان العراقي حينها، بتشريع قانون يجرم التعامل الاقتصادي مع تركيا وإيران في حال عدم استجابتهما لمطالب العراق بشأن حصصه المائية.

وقال الزاملي في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الموارد المائية: "إن البرلمان العراقي سيشرع هذا القانون في حال لم ترتدع الدولتان عن موقفهما بشأن حصة العراق المائية.

إيران 
خلال السنوات الأخيرة برزت أزمة المياه في العراق بشكل لافت وحظيت إيران بالجزء الأكبر من الاتهامات لا سيما بعد أن اعترفت بقطع مياه الكثير من الجداول والروافد عن العراق.

وبحسب الدراسات فإن الموارد المائية القادمة إلى العراق من إيران تصل إلى حوالي 35 بالمئة من معدل إيراداته السنوية البالغة نحو 70 مليار متر مكعب.

في عام 2011 أبلغت طهران بغداد عزمها على قطع جميع الأنهار المتجهة للعراق بسبب الأزمة المائية التي تعاني منها البلاد. 

وخلال العقدين الماضيين أقدمت إيران على قطع المياه عن أكثر من 45 رافدا وجدولا موسميا كانت تغذي الأنهار والأهوار في العراق، أهمها أنهار الكرخة والكارون والطيب والوند، ونهر هوشياري الذي يصب في محافظة السليمانية.

اتهمت حكومة كردستان العراق عام 2018 إيران بتغيير مجرى نهر الكارون بالكامل وإقامة ثلاثة سدود كبيرة على نهر الكرخة بعدما كان هذان النهران يمثلان مصدرين رئيسين لمياه البلاد.

وفي 2021 هدد العراق، إيران باللجوء إلى المحافل الدولية إذا أصرت الأخيرة على قطع الروافد المائية عن محافظة ديالى.

وقال وزير الموارد المائية آنذاك مهدي الحمداني إن الجانب الإيراني لم يبد أي تجاوب معنا وما زال يقطع المياه عن الأنهر والجداول في ديالي، ما تسبب في أضرار جسيمة للسكان الذين يعتمدون بشكل مباشر على المياه القادمة من إيران.

منتصف آب/ أغسطس الجاري قطعت إيران دون سابق إنذار مياه نهر الزاب الأسفل عن العراق، الذي يعد ثالث روافد نهر دجلة.

وذكرت مصادر حكومية عراقية أن مدة القطع غير معلومة خصوصا أنها تكررت خلال السنوات الأخيرة ما أثر سلبا على حياة مئات آلاف العراقيين الذين يعتمدون على "الزاب الصغير" لتلبية احتياجاتهم.

وتسبب قطع بعض الجدول عن مناطق جنوب العراق في أضرار بالغة في الزراعة فضلا عن جفاف أجزاء واسعة من المسطحات المائية "الأهوار" في محافظة العمارة المتاخمة لإيران.

تركيا
تبدو أزمة العراق مع تركيا حول ملف المياه أقل حدة إذ تتواصل لقاءات الجانبين بهذا الخصوص حيث تطالب بغداد أنقرة بزيادة الإطلاقات المائية لنهر دجلة والفرات.

ويعتبر سد إليسو ثاني أكبر سدود تركيا أهم أسباب شح مياه دجلة بنظر العراق.

وبدأت تركيا ببناء السد عام 2006، وعمل بكامل طاقته في كانون الأول/ ديسمبر 2020.

وفي آب/ أغسطس 2018 تعهدت تركيا بزيادة الإطلاقات المائية للعراق الذي احتج على تشغيل سد "إليسو" وحذر من ضرره على الأمن المائي للبلاد.

وفي آذار/ مارس الماضي تعهد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الثلاثاء، بزيادة دفق المياه في نهر دجلة الذي ينبع من تركيا، لمساعدة العراق المجاور في مكافحة الجفاف.

وقال أردوغان بعد لقاء في أنقرة مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، "قررنا زيادة كمية المياه المتدفقة في نهر دجلة لمدة شهر وبقدر الإمكان للتخفيف من محنة العراق".

وشهدت السنوات الأخيرة توقيع عدة مذكرات تفاهم واتفاقات بين البلدين بخصوص الحصة المائية، فيما يشكك خبراء بجدوى هذه اللقاءات في ظل الأزمة المتفاقمة التي يعاني منها العراق.


التأثيرات
في ظل التغير المناخي والجفاف الذي يضرب العراق بات الأمن المائي والغذائي والبيئي في خطر محدق.

وترجم ذلك حديث مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك مطلع الشهر الجاري عندما أكد أن حرارة الصيف الشديدة والتلوث جنوب العراق يشيران إلى أن "حقبة الغليان العالمي" قد حلت.

وأضاف تورك أن ما يحدث في العراق نافذة لمستقبل قادم على أجزاء أخرى من العالم إذا واصلنا الفشل في الاضطلاع بمسؤوليتنا في اتخاذ إجراءات وقائية ومخففة لحدة تغير المناخ.

بحسب وزارة الموارد المائية العراقية، فإن الزراعة في البلاد تعتمد على 85 بالمئة في مياهها على نهري دجلة والفرات، ومع الجفاف وشح المياه في النهرين فقد بات القطاع الزراعي في العراق محاطا بعدة مخاطر قد تؤدي إلى انهيار.

وظهرت تأثيرات السياسة المائية لدول الجوار جلية في جفاف بحيرة حمرين في ديالى وانحسار بحيرتي الرزازة والحبانية في الأنبار، فضلا عن جفاف مساحات شاسعة من الأهوار جنوب العراق.



وامتدت تأثيرات شح المياه إلى الثروة السمكية حيث نفقت آلاف الأطنان من الأسماك خلال السنوات الأخيرة حتى أغلق الكثير من مربي الأسماك بحيراتهم في صلاح الدين وشمال بغداد ومناطق أخرى.



وفي حزيران/ يونيو الماضي أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية عن تجفيف 297 بحيرة أسماك، لمواجهة شح المياه بعد انخفاض منسوب نهري دجلة والفرات.


وتحذر وزارتا الزراعة والبيئة في العراق، من أن البلاد تفقد سنوياً 100 ألف دونم زراعي جراء التصحر، كما أن أزمة المياه تسببت في انخفاض الأراضي الزراعية إلى 50% لوزارة الزراعة العراقية.

وأكدت الوزارة أن مساحة الأراضي المزروعة بالقمح والشعير خلال عام 2022 تراجعت خلال العام الجاري من 11 مليوناً و600 ألف دونم إلى أقل من 7 ملايين دونم، وهي أقل نسبة زراعة للمحصولين منذ سنوات طويلة.


الجفاف شبح المستقبل
حذر "مؤشر الإجهاد المائي" في عام 2019 من أن العراق سيفقد أنهاره بحلول عام 2040، ولن تصل مياه دجلة والفرات إلى المصب النهائي في الخليج العربي.

ويبلغ أدنى معدل لاستهلاك العراق للمياه نحو 53 مليار متر مكعب سنويا، بينما يحتاج العراق إلى 70 مليار متر مكعب لتلبية احتياجاته.

وتقدر كمية مياه الأنهار في المواسم الجيدة بنحو 77 مليار متر مكعب، وفي مواسم الجفاف بنحو 44 مليار متر مكعب.

بدوره حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي زار بغداد في آذار/ مارس الماضي، من أن العراق يواجه خطر نقص المياه في نهري دجلة والفرات، مشددا على ضرورة معالجة الأزمة وعدم السماح بأن يكون العراق بلدا بلا أنهار.


من جانبها ترفض الحكومة العراقية هذه التحذيرات حول المستقبل المائي في البلاد، وتصفها بالسوداوية.

وذكر الناطق باسم وزارة الموارد المائية العراقية خالد شمال، في تصريحات صحفية خلال حزيران/ يونيو الماضي، أن المخزون الاستراتيجي ارتفع بنسبة 35 بالمئة من بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 مقارنة بنفس الفترة من العام الذي سبقه.

واستبعد شمال أن يصل العراق إلى مرحلة جفاف النهرين بشكل كامل رغم استمرار معاناة البلاد من الجفاف والتصحر.

وكشف المسؤول الحكومي أن الوزارة لا تستطيع ضخ مياه كبيرة للأنهار، بسبب فقدان العراق 70 بالمئة من استحقاقاته المائية القادمة إليه من دول الجوار.

من جانب آخر، تواجه الحكومات العراقية المتعاقبة اتهامات واسعة بالتفريط بحقوق العراق المائية بسبب إهمال هذا الملف، ما سمح لدول الجوار بفرض إجراءات الأمر الواقع واستغلال الأوضاع المضطربة التي يعاني منها العراق.

وكان تحذير نائب ممثلة الأمين العام للامم المتحدة في العراق غلام إسحاق من أزمة نزوح وشيكة من جنوب العراق أحدث التحذيرات الأممية التي تدق ناقوس الخطر من أزمة جفاف وتصحر، تجعل من "الرافدين" شيئا من الماضي.

حلول واقعية
ينظر العراقيون للوعود الحكومية في شتى المجالات بعين الريبة، خاصة في أزمة الجفاف حيث لا تبدو تعهدات التخفيف من الأزمة ملموسة بالنظر إلى تفاقم المشكلة عاما بعد عام، حتى بدت تنافس مثيلاتها من الأزمات التي يعاني منها العراق.

يقول الباحث العراقي نظير الكندوري: "إن أزمة الجفاف في العراق لها أسباب عديدة، منها ما هو طبيعي بسبب الاحتباس الحراري، ومنها بسبب السياسات المتبعة من قبل القيادة العراقية الحالية بالإضافة إلى سياسات دول المنبع".

وأضاف في حديث لـ "عربي21”, أن جزءا من الحل يعتبر سياسيا بالضغط على دول المنبع لإعطاء العراق حصصه المائية المتفق عليها، بالإضافة للحلول الفنية".


وعند سؤاله عن أدوات الضغط التي يمتلكها العراق أجاب الكندوري: "لدى العراق أدوات عديدة للضغط على دول المنبع لمنحه حصصه المائية المتفق عليها، في ما يتعلق بتركيا من الممكن أن يتم الضغط عليها اقتصاديا من خلال تقليل الاستيراد منها وعدم منح شركاتها استثمارات في العراق، بالإضافة إلى إعطاء تركيا ضمانات بمحاربة حزب العمال وطرده من الأراضي العراقية".

أما في ما يتعلق بإيران، فإنه كذلك يتم الضغط عليها بتقليل الاستيراد أو عرقلة تدفق زائري العتبات المقدسة في العراق، وإذا فشلت تلك الأدوات، فإن باستطاعة العراق اللجوء للمحاكم الدولية لمقاضاة هاتين الدولتين، وفق الكندوري.

واستدرك الباحث العراقي بالقول: "لكن أدوات الضغط هذه من غير المرجح أن يتم تفعيلها طالما أن النظام السياسي في العراق يعاني من مشكلة السيادة، وارتهان نظامه السياسي لدول الجوار".

وأكد الكندوري، أن "أزمة الجفاف في العراق ليست مقتصرة على السنوات الأخيرة، لكنها تفاقمت بشكل خطير في هذه الفترة، إذ كانت الحكومات العراقية تتبع وسائل عديدة للحد من هذه المشكلة من مثل بناء السدود وترشيد استهلاك المياه ومنع التجاوز على مياه الأنهار بشكل عشوائي".

وتابع: "لكن حكومات العراق لما بعد 2003، تتحمل المسؤولية بشكل كلي ومباشر عن هذه الأزمة، وذلك بسبب عدم إيجاد حلول علمية وفنية لهذه المشكلة، بالإضافة إلى اتباع سياسة الانبطاح مع دول المنبع وعدم مطالبتها بحصة العراق المائية".

وحول انعكاسات الأزمة مستقبلا يرى الكندوري، أن "لها تأثيرات كارثية على الاقتصاد العراقي والبيئة، ناهيك عن تأثيراتها السياسية".

اقتصاديا، يكاد العراق أن يتحول من بلد زراعي إلى بلد يعتمد على الاستيراد من دول الجوار في تأمين حاجاته الزراعية والحيوانية، ما سيفاقم من مشكلة هجرة الناس من الريف على المدن وما سيرافقها من ضغط على البنية التحتية لتلك المدن والتي هي متهالكة بالأصل. كما أن توقف الزراعة بالعراق سيجعل البلاد لا تختلف عن أي بلد صحراوي يعتمد في مدخولاته على تصدير النفط فقط، تلك المادة التي تتذبذب في أسعارها، الأمر الذي سيجعل النمو الاقتصادي في العراق أمرا مستحيلا.

بيئيا، ستنعكس التأثيرات البيئية والمناخية على العراق حينما تختفي المسطحات المائية من أرضه كما هو الحال في الأهوار بالجنوب والبحيرات التي ستجف في شمال ووسط العراق.

سياسيا، ستؤدي مشكلة الجفاف لا محالة إلى اضطراب الوضع السياسي في البلد، فالشعب العراقي لا يمكن أن يسكت على عجز الحكومة حيال الأزمة وما يرافقها من تأثيرات سيئة على حياته، وستكون مشكلة الجفاف من أسباب عدم الاستقرار السياسي في العراق، بجانب أسباب أخرى موجودة أصلا.