اللجوء إلى إسرائيل في أوقات الأزمات، هي وصفة عربية مجربة، لكنها فاشلة، أي أنها لم تنقذ أحدا من مجربيها.
ففي عام 2011 طلب العقيد الراحل معمر القذافي من إسرائيل التدخل لإنقاذ نظامه، عندما ضاقت الحلقة عليه، ولم يكن ذلك سرا أو تخرصات، إذ إن وزيرا إسرائيليا في لقاء معه على قناة روسيا اليوم، حذر الغرب وحلف الناتو من خسارة نظام كنظام القذافي، طوّر من نفسه وجنح إلى السلم بعد سنوات من التغريد خارج السرب. إلا نظام القذافي سقط سقطة مروعة.
الخبرة التي اكتسبناها طوال السنوات الماضية تعلمنا أن أي لقاء مع مسؤول إسرائيلي، لا بد وأن يكشف عنه الإعلام الإسرائيلي، بصرف النظر عن الحزب الحاكم في إسرائيل، لأن جوهر مصلحة إسرائيل ليس في بنود ما اتفق عليه، بل في الإعلام والإعلان، لتشجيع أطراف أخرى على التقليد والمحاكاة.
التجربة أيضا تخبرنا أن إسرائيل لم تنقذ نظاما يتداعى، ولا مسؤولا على وشك السقوط والانهيار، لأن استراتيجيات وآليات عمل وتفكير صانع القرار في إسرائيل تختلف كليا وجذريا عما يجول في خواطر مسؤولينا، بل إن التاريخ يعلمنا أن ضريبة
التطبيع مع إسرائيل أكثر كلفة من عدم التطبيع.
إن التطبيع مع إسرائيل لا يمنح فرصا للمعارضين السلميين أن ينهشوا المسؤول عن التطبيع، بل إن الجماعات المتطرفة التي لا تؤمن بقوانين وآليات عمل الدولة تطل بقرنها وتجد من المتحمسين من يؤمن بفكرها الجذري العبثي، وهذا خطر لا يفكر فيه عادة المسؤول العربي الذي يظن أنه يتمترس خلف أجهزته الأمنية.
بالتأكيد، ما سبق هو عموميات تشملنا حكمتها وتشمل غيرنا، والآن دعونا نناقش خصوصية محاولة حكومة السيد عبد الحميد الدبيبة التطبيع مع الكيان الصهيوني.
قبل كل شيء فلنعلم أن الوعي الليبي الذي تربى على العداء لهذا الكيان المغتصب، تشكل مبكرا قبل أن تكون
ليبيا دولة منذ الأيام الأولى لاحتلال العصابات الصهيونية أرض فلسطين، وكتب التاريخ تنبؤنا بعشرات القصص عن الليبيين الذين التحقوا بصفوف الجهاد عام 1948 ضمن صفوف القوافل العربية والإسلامية التي هبت للدفاع عن فلسطين.
وهذا يعني أن الوعي الليبي بقضية فلسطين وعدالتها نشأ بمؤثرات إسلامية عربية صرفة، وليس وفق محددات أيديولوجية ناصرية أو بعثية أو ماركسية، وقبل أن تغزو إذاعة صوت العرب مسامع الليبيين.
ولهذا نلاحظ كيف أن نظام القذافي تلقف هذه العاطفة الصافية الخالصة وزايد بها لسنوات طويلة، قبل أن يفتضح أمره بطلب النجدة من إسرائيل، عندما انتفض الشعب الليبي ضده.
على الصعيد السياسي ليس هناك مصالح آنية عاجلة أو استراتيجية مستقبلية في التطبيع مع إسرائيل، فليبيا ليست دولة حدودية مع دولة الكيان الصهيوني، وليست هناك أية شراكات اقتصادية عسكرية أمنية سياسية تدعو إلى طلب ود إسرائيل والتقرب منها والركون إليها.
وبالتالي فإن لقاء السيدة نجلاء
المنقوش وزيرة خارجية حكومة الوحدة الوطنية مع وزير خارجية الكيان الصهيوني، ليس لصالح الدولة بقدر ما هو لصالح الحكومة؛ بقاء واستمرارا، لأننا لا نرى مصالح عامة وحالية وآنية ستعود على الدولة الليبية بالنفع.
التضحية بالسيدة نجلاء ككبش فداء لا يعفي الحكومة ورئيسها من المسؤولية وما ينطبق على الوزيرة ينطبق على من أمرها بهذا الفعل المجرم
لا يمكن لعاقل يدرك دهاليز السياسة أن يعتقد بأن تدبير هذا اللقاء كان من بنات أفكار الوزيرة، فهذا تدبير عالي المستوى، يبدأ برأس الحكومة، وباستشارة من مستشاريها، وبضغط أمريكي، ولعلنا جميعا نتذكر زيارة مدير الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز، المفاجئة بداية العام الجاري إلى العاصمة طرابلس، وما رشح عن اجتماع سري مغلق بينه وبين رئيس الحكومة وأحد مستشاريه، بعد اجتماع عام حضره عدة مسؤولين، وما قيل من أن بيرنز نصح ودفع رئيس الحكومة إلى البدء في إجراءات التطبيع مع إسرائيل، وهذه ليست تكهنات، بل هي معلومات كشفت عنها الصحافة الغربية حين اندلعت أزمة السيدة المنقوش.
ليس في الدبلوماسية شيء اسمه لقاء عارض، وليس في السياسة أن السري يبقى سرا، بل إن كشف الأسرار جزء من السياسة.
ليس بدعا من السياسة أن يستغل خصوم رئيس الحكومة هذه الواقعة للإطاحة به، فلعبة السياسة تقوم على استغلال الفجوات والتناقضات، صحيح أن هذه المجموعات المعارضة ليست منظمة حزبيا بقدر كاف، لكن لا يمكن سلب حقها في نهاية المطاف في معارضة السلوك المعيب لرئيس الحكومة.
وصحيح أن التعبير عن رفض التطبيع من قبل الشباب المحتجين لم يكن حضاريا، ولكنه كان لحظة غضب ورسالة قوية منهم للحكومة بأنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وأن عودة الحياة ليس من بين شروط استمرارها التطبيع مع إسرائيل أو مجرد البدء فيه، وليس من الصواب وصفهم بأنهم مأجورون؛ بالرغم من أفعالهم الغاضبة المسيئة. وهذا لا يبرئ أصحاب الأجندات من محاولة استغلال هذا الغضب وتجييره لصالح أجنداتهم ولتصفية حساباتهم السياسية.
كما لا يكفي الاحتجاج بأن أطرافا ليبية أخرى تواصلت مع الكيان الصهيوني، فالجريمة لا تبررها جريمة، فكل من تواصل مع العدو الصهيوني لغرض بقائه واستمراره وتوسطه لدى القوى الكبرى لن يرحمه التاريخ، مهما كانت مبرراته وأسبابه.
كما أنه من غير المنطقي تحميل السيدة المنقوش وحدها وزر هذا التواصل، والتضحية بها، وكأنها وزيرة تنقصها الخبرة الدبلوماسية، فليست هي وحدها التي تنقصها هذه الخبرة في الجهاز الحكومي الحالي، ومحاولة إنقاذ الحكومة برمي الوزيرة من الشباك، هي ألعن وأضل سبيلا من السكوت والتغاضي.
وإن سلمنا بأن السيدة نجلاء هي المباشرة لهذا الفعل المجرم قانونا فإن الذي أمرها شريك معها في الجرم بنص القانون الذي يحمل المسؤولية للمخطط والآمر والمحرض، ويسميه شريكا في الجريمة بل فاعلا أصليا فيها، بينما يعد المنفذ فاعلا ماديا لأنه واقع تحت تأثير وإمرة الفاعل الأصلي للجريمة.
وإذا اعتبرنا أن ما قامت به السيدة نجلاء محرم شرعا فإن من أمرها به شريك في هذا الجرم فما كان في الشرع محرماً كانت الإعانة عليه محرمة أيضا، لأن الآمر والمحرض والمخطط والمعين شريك في نشر هذا الحرام. قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وفي الحديث الذي رواه مسلم (.. ومَن دَعَا إلى ضَلاَلَة، كان عَلَيه مِن الإِثْم مِثل آثَامِ مَن تَبِعَه، لاَ يَنقُص ذلك مِن آثَامِهِم شَيْئا).
التضحية بالسيدة نجلاء ككبش فداء لا يعفي الحكومة ورئيسها من المسؤولية وما ينطبق على الوزيرة ينطبق على من أمرها بهذا الفعل المجرم، فكلا المتبوع الذي أمر والتابع الذي نفذ سواء في المسؤولية في هذه القضية الأخلاقية، وأي محاولة لتبرئة التابع هو رأي سياسي يمكن قبوله في إطار التدافع السياسي ولكنه ليس بقانوني ولا شرعي.
ومع كل ذلك.. هذه القضية لا تصلح أن تكون محلا للمساومة السياسية أو للمتاجرة بها من أي طرف كان، إنها قضية أخلاقية بامتياز، ولسنا نعول هنا على التجريم القانوني، بل على ما استقر في ضمير هذه الأمة الليبية جمعاء من رفض قاطع وحاد، غير قابل للطعن، فالشعب الليبي قال كلمته بأن التطبيع جريمة وخيانة.