ربما تكون أغاني
أكتوبر هي أكثر شيء حسم جدل النصر في هذه المعركة الإشكالية في تاريخنا المعاصر.
لقد حسمها
عاطفيا ووجدانيا... بينما ظلت حوارات المؤرخين وجدالات البحاثة مستمرة إلى يوم
الناس هذا حول حرب أكتوبر؛ هل هي نصر أم هزيمة؟! راح كتاب الأغاني والشعراء
والموسيقيون يواصلون الحفر في وجداننا، معددين مناقب هذا النصر وأبعاده
وتأثيراته.
لا شك أن
العرب في ذلك الحين كانت كأفواه الإبل المتشققة الملهوفة لأي سراب ماء في صحراء
الهزيمة المنكرة قبل خمس سنوات. وعبر سنوات من الترقب في حرب الاستنزاف أصبحت هذه
الأفواه سيفا سليطا في وجه الحاكم، تدعوه وتحثه على المواجهة.
الكرامة
الوطنية والتي ربما يضحك منها مواطنو هذا الوقت، هي كل ما كان يعتمل في أرواح ذلك
الجيل الذي عاش ذلك الزمن قبل أربعين سنة. كان الفنانون هم لسان حال هذا الترقب.
تروي السيدة
وردة في إحدى مقابلاتها أنها بقيت لوقت طويل مع الأستاذ بليغ حمدي في حوار لإقناع
مدير إذاعة البرنامج العام
المصرية آنذاك، بتسجيل أغان جديدة تمجد هذه اللحظة
التاريخية.
بينما يتذرع
المدير بعدم وجود ميزانية تكفي لتسجيل أية أغان جديدة. تنازل الفنانان عن أجورهما
وسرعان ما تنازل الموسيقيون أيضا عن أجورهم أيضا وأخيرا نجحوا في تخليد ذلك اليوم
بأغنيتين من أروع ما أنتج وهما: "وأنا على الربابة بغني" و "الله
أكبر.. بسم الله".
هكذا كانت
تُدرك المعاني وتعتمل في صدور المبدعين، مع تصاعد وجداني لا يمكن تفسيره إلا بتأمل
استمرار تفاعلنا معه حتى يومنا هذا.
العدو سيبقى
هو العدو.. في تلك الأغاني لا يمكن لنا الاقتناع بأي مبادرة للسلام ونحن نشدو تلك
الأناشيد، التي تمجد النصر وترفع من المعنويات التي لا تزال الحياة تهرئ ثوبها
المتجدد في السادس من أكتوبر من كل سنة.
الله أكبر بسم
الله.. بسم الله
بكلمات المبدع
عبد الرحيم منصور راح الكورال ينشد بحماسة (الله أكبر.. بسم الله.. بسم الله) بلحن
بلبل الشرق بليغ حمدي.. أنشودة بسيطة تتكون من جملتين موسيقيتين أولاهما على مقام
البياتي (الحسيني) والثانية على مقام الرست، أشعل بليغ حمدي حماسات قلبه المفرطة
الرهافة ونقلها إلى الجبهة، فتلقفها جنود مصر خطوات لاهبة تدك قلاع العدو وتعبر
سيناء ببسالة.
لو قدر لبليغ
حمدي أن يشدو بهذه الأغنية هذه الأيام وهي بمكونها الأساسي تتكون من جمل تحيل
الجميع إلى مفردات الذكر الإسلامية.. وتكاد لا تنطق إلا بها... لاتهم بأنه
"متأسلم" يرفع الشعارات الإسلامية، ويحول مجرى الصراع إلى طريق تموله
تركيا أو إيران! فانظر عزيزي القارئ كيف باعدت الأحداث بين الوجدان الشعبي الديني
الطبيعي وبين روح العصر، وما تعرضت له هذه المفاهيم من تشويه وطمس. لأسباب تشاركت
فيها جميع القوى المتناحرة من اليمين إلى اليسار. لكن هذا الانفصام ما يلبث أن
يزول بمجرد تشغيلك لهذه الأغنية وترديدها، والاستمتاع بإيقاعاتها الهادرة.
يشير المؤرخون
أنه وفي تلك الأثناء تم تسجيل ما يقارب 40 أغنية جديدة تمجد النصر وتتغنى
بتفاصيله. قدمت هذه الحالة الفنية نوعا من الزخم الإبداعي الذي كان يستحث بعضه
بعضا. بعض هذه الأغاني ما زالت تُبث في المناسبات الوطنية ومنها ما غاب واندثر
وظل معلقا في صفحات التاريخ التي تطوى ولا تذكر إلا عند البحث.
ما يهم هنا هو
حفظ هذه الأعمال الإبداعية للوجدان الجمعي في لحظة فارقة. لحظة مواجهة الناس
لأحداث مصيرية.. سيختلف المؤرخون والساسة وطلبة العلوم السياسية حول تلك اللحظة.
ولكن الذي لن نختلف عليه هو طبيعة التاريخ الوجداني الذي جمع المصريين وكل العرب
في ذلك الحين، نستطيع أن نلمسه في هذه الروح الخالدة والتي عبر عنها هؤلاء
الفنانون أحسن تعبير.
لا بد أن
أفئدة الجنود كانت تنبض مع وقع رصاصهم وقذائفهم وهي تدك العدو. الروح في غاية
التعبئة. والمدى يكاد لا يتسع لانعتاق نحو الحرية والمجد هذا ما تقوله تلك
الأغاني التي تمجد أكتوبر والتي نصدقها بكل تفاصيلها.
كانت أغنية
"بسم الله الله أكبر" حالة فريدة، فقد تم تلحينها وغناؤها في نفس يوم
المعركة. وفي اليوم التالي تمت صناعة أغنية "على الربابة بغني".. وبعد
ذلك توالت الأعمال الإبداعية، وانتهت الحرب بما حملت من انتصارات، ثم أصبح الاحتفال
بهذه الانتصارات تقليدا سنويا إلى يومنا هذا، يحتفل به الجيش المصري ويجهز له
الفنانون والشعراء أغاني جديدة تمجد الانتصار وتجدد ذكرياته.
لقد ساهمت
الأعمال الإبداعية.. بتذكيرنا بما لا يجدر بنا نسيانه. لحظات اختلطت بها المشاعر
مع الأفعال في تحقيق نصر، حتى لو بالأحلام.