لا أنكر أن قلقا انتابني بعد نجاح الثورة
المصرية في عزل
مبارك، على موقف المصريين من قضية
فلسطين، وقد تخطى الرقاب شباب نصّبوا أنفسهم ولي
أمر الثورة، وتبدو هذه القضية، كما قضية الاستقلال الوطني، ليست على جدول أعمالهم،
وقد انتحلوا صفة "ليبراليين"، وهي تعني "الأمركة" في حالتهم،
والخضوع لفكرة الهيمنة الغربية. وكانت القوى الخارجية تسعى لصناعة نخبتها على
عينها، بعد مرحلة الاصطياد من اليسار ومن لديه استعداد للتواطؤ، فيما عُرف
بالتمويل الأجنبي لمؤسسات المجتمع المدني، فهل تعلم أن الراحل حافظ أبو سعدة مثلا
كان عضوا في التنظيم الناصري المسلح؟!
ولا يمكن تجاوز أن الصراع داخل إحدى الحركات الشبابية
كان من أجل التدافع على السفر للخارج، الذي تسهّله السفارة الأمريكية، حتى صار
للحركة الوليدة فرعان، وبدأ الخلاف مبكرا عند خروج إسراء عبد الفتاح من السجن،
وتوجيه الدعوة لها للسفر، فأرسل البعض أنها لا تمثل 6 أبريل، وكلما أرسل فريق
قائمة أنكرها الآخرون، فكان القرار ليكن السفر للجميع!
في الحركات اليسارية يقولون إن أسهل شيء أن تكون ناصريا،
فالأمر لا يحتاج منك إلى مستوى ثقافي معين، ولا أن تقرأ في مراجع الكبار كما في
الحالة الماركسية، فيكفي أن تقول إنك مع الفقراء الكادحين، وضد إسرائيل، ليتم
تعميدك ناصريا.
في محاولة التوظيف للأحداث كانت الدعوة لجمعة التفويض، وقد بدأها البرلمان بغرفتيه بتقديم التفويض للسيسي، كما أن صحيفة، تابعة وخاضعة ومملوكة لأهل الحكم، قدمت صيغة التفويض المطلوب، ومهدت الأبواق الإعلامية للأمر، وبدا المشهد كما لو كان "حلقة زار"، فدولة المؤسسات لا تعرف التفويض، وكل المطلوب تفويض منصوص عليه دستوريا، بما في ذلك إعلان الحرب، أو إرسال قوات مقاتلة للخارج!
وبالقياس، فلا يحتاج منك لأن تكون ليبراليا أن تقرأ ولو
كتابا واحدا، لذا فإن هذا الخواء صنّف نفسه ليبراليا، وقد عرفنا الليبرالية
المصرية، وهي ليبرالية وطنية تبنت قضية الاستقلال الوطني، ممثلة في زعماء الوفد، لكن
الحاصل لدينا هو ما أطلقت عليه "الأمركة"، وواشنطن ليست عنوانا
لليبرالية فيما خارج حدودها، فليست أكثر من قوة استعمارية بغيضة، وعندما يأنس لها
شباب ينتمون للثورة، فإنهم هنا سيكونون جزءا من أجندتها!
والحال كذلك، فقد وجدت من الضروري التمييز بين ليبراليتي
وليبرالية الأدعياء وكنت أقول إنني ليبرالي وفق الليبرالية الوطنية، وهي
الليبرالية المقاومة للاستعمار لا المتحالفة معه، وفي مرحلة لاحقة، كتبت هذا النص:
"ليبرالي على كتاب الله وسنة ورسوله ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان"،
وكان الأمر في البداية لا يخلو من فكاهة، لأنها صيغة الزواج المعمول بها في مصر،
ثم بعد قليل وجدت في الأمر وجاهة فلم تكن الليبرالية المصرية في عداء مع الدين في
يوم من الأيام، كما هو توجه أدعياء الليبرالية أو "الليبراليون الجدد"
الآن، فلا تكتمل ليبراليتهم سوى بالتحرش بالإسلام ورجال الدين، كما أن الإمام أبا حنيفة له اعتباره هنا، باعتباره صاحب مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي!
ومع خوفي لأن يؤخذ البلد في اتجاه آخر، وقد نشطت السفارات
الأجنبية في التعرف على من قدموا أنفسهم أنهم أصحاب الثورة، حدث ذات يوم مشهود أن
اعتدت إسرائيل على
غزة، فإذا بجماهير الثورة الحقيقيين يحاصرون السفارة
الإسرائيلية، ويصعد شبابهم أعلى البناية مع ارتفاعها ويتم التنافس على إنزال علم
القوم، لأول مرة منذ رفعه في سماء القاهرة بموجب اتفاقية كامب ديفيد، عندئذ أدركت
أن جماهير الثورة العريضة لم تخطئ قبلتها!
حدث في جمعة التفويض:
فلا تزال القضية الفلسطينية هي القبلة، والتأكيد على
جدية الانتماء العربي والإنساني بالانحياز لها، وهو ما تجلى في "جمعة
التفويض"، ضمن ما منحته من دروس وعبر!
إن أهل الحكم في مصر اعتمدوا موقفا ملتبسا من الأحداث
التي تشهدها الأرض المحتلة ومن العدوان على غزة، فلا تعرف لموقفهم وجها من ظهر،
لكن بدا واضحا أنهم يريدون استغلال الاحتشاد الجماهيري حول القضية، في ركوب
الموجة، لكن دون أن يكون لهم موقف واضح، يدين العدوان، ويؤكد على حق الشعب
الفلسطيني في تحرير أراضيه.
وفي محاولة التوظيف للأحداث كانت الدعوة لجمعة التفويض،
وقد بدأها البرلمان بغرفتيه بتقديم التفويض للسيسي، كما أن صحيفة، تابعة وخاضعة
ومملوكة لأهل الحكم، قدمت صيغة التفويض المطلوب، ومهدت الأبواق الإعلامية للأمر،
وبدا المشهد كما لو كان "حلقة زار"، فدولة المؤسسات لا تعرف التفويض،
وكل المطلوب تفويض منصوص عليه دستوريا، بما في ذلك إعلان الحرب، أو إرسال قوات
مقاتلة للخارج!
وكانت الدعوة لجمعة التفويض، عن طريق حشد الناس على ذات
طريقة الحشد المعتمدة حكوميا، وكان آخرها حشد التوكيلات الرئاسية لصالح الجنرال،
وهو استغلال لفقر الناس، وتحول سياسيو المرحلة إلى مقاولي أنفار لأعمال السخرة
والتشهيلات السياسية!
وفي المقابل فإن لدينا جماعة المناضلين على الكيبورد،
الذين يسفهون أي موقف أو خروج ليس على قواعدهم، فإما أن ينتصر الحق بهم أو لا نصر
ولا حق، وإذ قال البعض على استحياء ذروهم يخرجون، فقد تختلف قواعد اللعبة، إلا أن
مناضلي الكيبورد في جاهزية دائما لشيطنة الجميع، وهم تسري عليهم مقولة طه حسين
"الذين لا يعملون ويؤذيهم أن يعمل الآخرون"!
لقد أدهشنا من خرجوا للتظاهر الجاد برفعهم لشعارات
الثورة، ثم أسكتوا من شككوا فيهم بهذا الهتاف الفصل: "الدعوة بجد.. احنا مش
بنفوض حد"، بصياغات مختلفة، لكنها كانت كاشفة عن عقل منظم، وأساس سليم. وفي
القاهرة انطلقت الحشود من الجامع الأزهر إلى ميدان التحرير، لتدخله عنوة، وهي تهتف
بهتافات الثورة المجيدة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، فهل من مزايد خلف
الشاشة؟!
الذين خرجوا في المظاهرات:
أدهشنا من خرجوا للتظاهر الجاد برفعهم لشعارات الثورة، ثم أسكتوا من شككوا فيهم بهذا الهتاف الفصل: "الدعوة بجد.. احنا مش بنفوض حد"، بصياغات مختلفة، لكنها كانت كاشفة عن عقل منظم، وأساس سليم. وفي القاهرة انطلقت الحشود من الجامع الأزهر إلى ميدان التحرير، لتدخله عنوة، وهي تهتف بهتافات الثورة المجيدة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، فهل من مزايد خلف الشاشة؟!
اللافت أن شبابا وفتية صغارا كانوا ملح هذه المظاهرات،
وتم القبض على عدد منهم، وهم من كانوا في أيام الثورة أطفالا، لكن الدرس هنا هو أن
الثورة لا تزال باقية وإن هُزمت، ما دامت الأجيال تتوارثها على هذا النحو!
إن الأكثر دهشة أن كثيرين من الذين خرجوا يرفعون أعلام
فلسطين، ويغامرون بالهتاف لها وحدها، وُلدوا في زمن كامب ديفيد، والتطور الحاصل في
المنطقة، حيث حكامها يستقوون بإسرائيل، ويذهبون إلى تل أبيب محلقين ومقصرين في
ابتذال وانحطاط!
وليس هذا هو الدرس الوحيد، فقد كان غياب الإسلاميين من
المشهد سببا في اكتشاف أن قضية فلسطين هي قضية الغالبية الساحقة من المصريين لا
يضرهم من ضل، وإن قصّروا في السابق، فلأنهم كانوا يجدون من يقوم نيابة عنهم بفرض
الكفاية، فلما غُيّبوا في السجون والمنافي، كان هذا الانحياز المعلن والمدهش لقضية
فلسطين، والمغامرة بالتظاهر من أجلها، فلم تعد هذه القضية اختصاصا إسلاميا.. إخوانيا
على وجه التحديد، وهو ما كشف عنه الموقف الجامع من الحرب الأخيرة.
في العدوان الذي جرى على غزة سنة 2009، وإذ عدت من سفر
قصير، على دعوة منسوبة للقوى الوطنية، فقد ذهبت في اليوم التالي إلى مكان الدعوة
على سلالم نقابة الصحفيين، كانت الهتافات تشق عنان السماء، ولم أكن أجهل أنهم
الإخوان، لكن الذي حدث في هذه المرة، أنه عندما يهتف أحد من القوى الوطنية الأخرى،
فلا يرد عليه إلا بضعة أشخاص، واستفزني الأمر، فسألت عن كبيرهم، وكان أحد نوابهم
(فك الله أسره)، وكانت المرة الأولى التي أراه فيها!
إذ كان يُشرف على هذه المظاهرات في الغالب "علي عبد
الفتاح"، من إخوان الإسكندرية، وكانت تربطه بالجميع علاقة جيدة، فتنتهي
الوقفة، فيصعد للدور الثامن حيث كافتيريا النقابة، ويصافح هذا، ويتحدث مع ذاك،
لكنه كان قد اعتقل، فجاء هذا الوافد الملتزم بظاهر النص الإخواني!
كنت غاضبا لهذا المشهد، وكان الزحام قد خلق ثقافته حيث
الحدة، سألته معاتبا لهذا الصمت إذا هتف الآخرون، فلماذا قالوا إنها وقفة للقوى
الوطنية، ولم يجعلوها دعوة خاصة بهم؟ وقال مندفعا إنهم لن يهتفوا خلف أحد، وأنهم
لن يهتفوا إلا إذا قاد الهتاف المعتمد لديهم (كان يهتف من ورقة)، وإن أحدا لن
يحملهم على غير إرادتهم، وإذ صدرت إشارة من إصبعه، فقد فوجئتُ بهذا الانصراف
المدهش والمنظم في لحظة. وبقينا مجموعة من الأفراد على سلالم النقابة، واستشعرتُ
الحرج لقلتنا عددا وحيلة، ورجال الأمن يقفون كما هي العادة في الجهة المقابلة.
والغريب أن كلا من نور الهدى زكي وكريمة الحفناوي لم تتوقفا عن تبادل زعامة
الهتاف، والحال كذلك، فكتبت مقالا عما جرى عنوانه "أمن الإخوان
المركزي"!
الذي حدث في جمعة التفويض أن جيلا جديدا استطاع الحشد، بدون
الإخوان، وأثبت قدرته على سد الغياب، والعنوان هو القضية الفلسطينية التي لم
يخذلها الشعب المصري أبدا، مع تحولات النظام منذ منتصف عهد السادات!
لها ما بعدها!
twitter.com/selimazouz1