قال الصحفي والكاتب الأمريكي المختص بقضايا الأمن
القومي، سبنسر أكرمان، إن ما يجري في
غزة اليوم، يوضح الفرق بين القانون الدولي،
والنظام الدولي القائم على القواعد والأحكام.
ولفت الكاتب الحائز على جائزة بوليترز، إن الالتزام بالهيمنة الأمريكية هو الذي يحدد من بإمكانه أن يفعل أو لا
يفعل –ومن يحق له أن ينتهك الصيغة التي تقيد عنف الدولة.
وفي
مقاله على موقع "
ذا نيشن"، قال سبنسر إنه بعد وصول الضحايا المدنيين في
غزة إلى مستوى العشرة آلاف، بدأت تتنامي الأصوات التي تدعو واشنطن إلى انتقاد
انتهاك إسرائيل الأعراف الدولية، وإخفاقها في قصر عملياتها العسكرية على الأهداف
العسكرية المشروعة.
وتابع
صاحب كتاب "عهد الإرهاب: كيف زعزعت حقبة 11 سبتمبر
استقرار أمريكا"، أن الضوء الأخضر الذي منحه
بايدن لإسرائيل يشكك في شرعية
"النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام.
كما أنه هذا الدعم الأمريكي المطلق
"يبين حقيقة ذلك النظام الدولي. فعلى الرغم من أنه قائم على القواعد
والأحكام يبدو كما لو كان "قانوناً دولياً"، إلا أنه في واقع الأمر
استبدال للقانون الدولي بامتيازات الهيمنة الأمريكية".
وتاليا
المقال كاملا كما ترجمته "عربي21":
مع تجاوز عدد وفيات الفلسطينيين
مستوى العشرة آلاف في مطلع شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، حذر دبلوماسيان اثنان ذوا
رتبة متوسطة تم تهميشهما بسبب دعم الرئيس جو بادين لإسرائيل من أن الولايات
المتحدة تحتاج بإلحاح لأن تقوم علانية "بانتقاد انتهاكات إسرائيل
للأعراف الدولية، مثل الإخفاق في قصر العمليات الهجومية على الأهداف العسكرية
المشروعة." وكتبا في مذكرة سربت إلى بوليتكو يقولان إن حرب إسرائيل
على غزة تنثر بذور "الارتياب بالنظام الدولي القائم على
القواعد والأحكام، والذي طالما كنا رواده وأبطاله."
يشكل الدبلوماسيان جزءاً من
جوقة متنامية تتبنى موقفاً معارضاً للحصانة من المساءلة والمحاسبة التي لم
تزل الولايات المتحدة تمنحها منذ وقت طويل لمن ينتهكون القانون الدولي بشكل
لا لبس فيه. وهذا ما أشار إليه عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني حين قال إنه
"في صراع آخر" – وهو الغزو الروسي لأوكرانيا – نددت
الولايات المتحدة "بالهجوم على البنية التحتية المدنية وتعمد تجويع
السكان وحرمانهم من الغذاء والماء والكهرباء والضرورات الأساسية." ومضى يقول
إن القانون الدولي "يفقد كل قيمته إذا ما كان تطبيقه انتقائياً."
لم يكن عبد الله الشخص الوحيد الذي
أثارت حفيظته المقارنة بين أوكرانيا وغزة. فبعد أسبوع من اندلاع الصراع،
وفي لقاء عبر الزوم رتبه الكاتب بيتر بينارت، قال رئيس الكنيست
السابق أفرام بورغ إن مقاربة قوات الدفاع الإسرائيلية – تسوية
البنية التحتية بالأرض بواسطة القصف الجوي والمدفعي من أجل تسهيل الحرب
البرية على الدبابات والمشاة – ما هو سوى تبن للاستراتيجية
الروسية.
ما من شك في أن الدبلوماسيين على حق،
فالضوء الأخضر الذي منحه بايدن لإسرائيل يشكك في شرعية "النظام
الدولي القائم على القواعد والأحكام." كما يبين حقيقة ذلك النظام
الدولي. فعلى الرغم من أن النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام يبدو
كما لو كان "قانوناً دولياً"، إلا أنه في واقع الأمر استبدال للقانون
الدولي بامتيازات الهيمنة الأمريكية. لا يمارس بايدن النفاق،
بالضبط، إذ يعاقب روسيا على أعمال إذا قامت بها إسرائيل أعلن عن دعمه لها. ما
يمارسه بايدن هو الاستثنائية.
لنكن واضحين، كثيرون داخل وخارج
الحكومة الأمريكية عادة ما يتعاملون مع مصطلح "النظام الدولي
القائم على القواعد والأحكام" كما لو كان مرادفاً لعبارة "القانون
الدولي". يُسعد أنصار فكرة النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام
أن يستخدموا القانون الدولي أو يشيدوا به إذا كان في ذلك ما يخدم
مصالح الولايات المتحدة، مثلما حينما تسعى المحكمة الجنائية الدولية إلى
إلقاء القبض على فلاديمير بوتين على جرائم الحرب التي يرتكبها في
أوكرانيا. ومع ذلك لا يمكن أن تقبل الولايات المتحدة بالخضوع إلى المحكمة
الجنائية الدولية. بل قامت الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس جورج دبليو بوش
بإلغاء توقيعها (غير المصدق) على المعاهدة التي بموجبها تأسست المحكمة
الجنائية. وفي عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على
عائلات قضاة المحكمة الجنائية الدولية ممن فتحوا تحقيقاً في جرائم الحرب المنسوبة
إلى الولايات المتحدة في حربها داخل أفغانستان. وتلك هي الطريقة التي يعمل
بها النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام. لا تجدها تستبدل آليات القانون
الدولي، وإنما تضع علامات نجمية إلى جانبها. قد تلزم هذه القيود خصوم
الولايات المتحدة، أما الولايات المتحدة وعملائها فبإمكانهم أن يتحللوا
منها.
نظرة على التاريخ القصير للكيفية التي
قضت بها الولايات المتحدة اللحظة التي عاشتها ما بعد الحرب الباردة كقوة
عالمية عظمى تبين ظهور ما نطلق عليه الآن "النظام الدولي القائم
على القواعد والأحكام" على حساب القانون الدولي. عندما لم
تمنح الأمم المتحدة تخويلاً بشن الحرب على صربيا من أجل إنقاذ كوسوفو، تصرفت
الولايات المتحدة كما لو كان حلف شمال الأطلسي (الناتو) يحمل نفس الصلاحيات،
ولم يكن هناك بلد واحد يملك من القوة ما يمكنه من تحدي الولايات المتحدة، التي
زادت سطوتها ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ولم يلبث غزو الولايات
المتحدة للعراق في عام 2003 أن جعل من القانون الدولي محل سخرية، على الرغم
من أنها لم تكف يوماً عن الادعاء بأنها تلتزم به.
على الرغم من أن كثيراً من الدوائر
المحترمة اعترضت على العدوان السافر الذي مارسه بوش، إلا أن فئة
ممن يعملون في قطاع السياسة الخارجية الليبرالية يرون بأن القوة الأمريكية يمكنها
أن تنقذ القانون الدولي من نفسها. في عام 2006، اقترح الباحثان آن
ماري سلوتر وجون إكنبري استراتيجية كبرى أطلقا عليها اسم
"عالم من الحرية تحت القانون". وما فعلاه هو أنهما سعيا لإصلاح
وتعزيز المؤسسات الدولية القائمة. ولكنهما أكدا أنه إذا ما كانت الأمم المتحدة غير
قابلة للإصلاح، فلا أقل من أن تقوم ثلة من البلدان الديمقراطية بتوفير
منتدى بديل تمارس من خلاله الديمقراطيات الليبرالية مهمة التخويل بفعل
جماعي. وبهذا الشكل يتضافر مفهوم النظام الدولي القائم على القواعد
والأحكام.
ما بدأ باعتباره رداً على حدث طارئ في
البلقان غدا الآن أمراً معتاداً. فقد حول الرئيس باراك أوباما مهمة إنسانية للأمم
المتحدة في ليبيا إلى دعم لعملية إسقاط معمر القذافي. وبعد أن خرج من تحت
حطام العراق إرهاب داعش، نشرت الولايات المتحدة قوات في شرق
سوريا بدون تفويض من الأمم المتحدة ولا دعوة من نظام بشار الأسد، الذي ظل
قائماً لسوء الحظ. أما ترامب فقد أمر باغتيال قاسم سليماني، أحد
أهم الشخصيات في الحكومة الإيرانية.
في رسالة عبر الإيميل، قالت ماري
إلين أوكونيل، خبيرة القانون الدولي والأستاذة في جامعة نوتردام: "لا
يمكن للنظام الدولي القائم على القواعد والأحكام أن يحل محل القانون
الدولي – وذلك أن القانون الدولي متضمن في نفس مفهوم الدولة، والحدود
الدولية، والمعاهدات وحقوق الإنسان. إلا أن النظام الدولي القائم على
القواعد والأحكام يقوض المعرفة بنظام القانون الدولي ويقلل من احترام الآخرين
له. كما أن قدرة القانون على دعم الحلول المطروحة للتعامل مع التحديات
العالمية من الحرب والسلام إلى التغير المناخي والفقر تتآكل تحت
وطأة منافسة هذا المفهوم الذي تعتريه العيوب."
والآن انظر إلى ذلك الذي
تفعله إسرائيل حالياً في غزة. بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) صارت تقتل ما يقرب من
180 طفلاً في اليوم الواحد. طالب الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين بالتخلي عن
منازلهم في شمال غزة. ثم بعد أن انصاع لذلك مئات الآلاف منهم، قامت بمهاجمة
الأماكن التي توجهوا إليها في جنوب غزة، والتي ساقتهم بنفسها نحوها. بعد
تجويع غزة، وحرمانها من الأدوية، وإغلاق وسائل الاتصال معها،
وقتل صحفييها، وحصار، بل وحتى مداهمة، مستشفياتها، والادعاء بأن
الأماكن التي يلوذ بها اللاجئون بأعداد كبيرة ما هي سوى مواقع
لحماس، زعمت إسرائيل بعد كل ذلك أنها قتلت العشرات من قادة
حماس، وذلك علماً بأنه كان قد وصل تعداد الوفيات بين الفلسطينيين
حتى ذلك الوقت إلى عشرة آلاف وخمسمائة فلسطيني.
لا سبيل إلى مواءمة تلك الأرقام مع
مطالب القانون الدولي بالتمييز والتناسب. إلا أن إسرائيل تعلم أن لديها ما هو أقوى
من القانون الدولي: الحماية التي يوفرها النظام الدولي القائم على القواعد
والأحكام.
الباحثون المتخصصون في تاريخ المحرقة
من أمثال راز سيغال من جامعة ستوكتون وأومير بارتوف من جامعة
براون يعتبرون أن إسرائيل وصلت، أو تجاوزت، عتبة ارتكاب الإبادة
الجماعية، أبشع الفظائع التي يتصور أن تصدر عن دولة تصف نفسها بأنها يهودية. كان بايدن قد صعق في
عام 2022 عندما رفض جل العالم – تلك الأجزاء منه التي عادة ما تتلقى
الضربات من قبل الولايات المتحدة – تقبل السردية الأمريكية حول غزو
روسيا لأوكرانيا. كان ينبغي أن يكون ذلك بمثابة الرمية. فها هو العالم
يشاهد إسرائيل تبيد غزة بالأسلحة الأمريكية وبالدعم الدبلوماسي الأمريكي. ومن خلال
فعلهما ذلك، يكشف بايدن ونتنياهو ما هي حقيقة النظام الدولي القائم
على القواعد والأحكام: ليس عالماً من الحرية تحت القانون وإنما مقبرة جماعية.