ينطلق
هذا المقال من ملاحظة عفوية لمآلات
الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة في
تونس بعد "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021. فرغم المسارات المتعرجة للانتقال
الديمقراطي وهشاشة منجزه في جميع الملفات السياسية والقضائية والاقتصادية
والثقافية، كان هناك شبه "وهم معمّم" حول "الاستثناء التونسي"
وصعوبة انتكاسته مثلما حصل لأغلب ثورات الربيع العربي. كما كان أغلب النقد الموجه
لما قبل 25 تموز/ يوليو ينصبّ على التحذير من انحرافات
الديمقراطية التمثيلية المتمثلة في تفشي "الفكر المتطرف" والارتهان
للمال السياسي المشبوه، أو تدخل السفارات في صياغة القرار السيادي والتمويل
الأجنبي وتأثيره في توجيه الرأي العام. ولم يكن من المفكّر فيه -حتى في السرديات
الانقلابية الصلبة والناعمة- بناء شكل ديمقراطي بديل، كما هو الشأن مع
"التأسيس الثوري الجديد" والديمقراطية القاعدية أو المباشرة.
عندما
أقدم الرئيس على اتخاذ إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021،
كان سنده الدستوري هو الفصل الثمانون من الدستور وحتمية تفعيل حالة الاستثناء
بصورة "مؤقتة"؛ لإعادة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي وتجنيب البلاد
"الخطر الداهم" الذي تنذر به حالة العطالة في عمل الحكومة، إضافةً إلى فشل
"الائتلاف الحاكم في معالجة وباء كورونا والكساد الاقتصادي وحالة الاحتقان
الشعبي التي قد تتحول إلى اقتتال بين المواطنين.
نجاح الرئيس (ومن ورائه النواةُ الصلبة للحكم وحلفاؤها في محور الثورات المضادة) في إنهاء "الاستثناء التونسي" لا يعود إلى قوة ذاتية فيه، أي لا يعود إلى شرعية شعبية ولا إلى مشروعية الإنجاز ولا إلى تبني عموم الشعب لمشروعه السياسي؛ بقدر ما يعود إلى "قابلية الارتكاس" في "مسار الانتقال الديمقراطي" وهشاشة الوعي الديمقراطي للنخب التي أدارته، بل تناقض وعي تلك النخب مع مقتضيات الديمقراطية الليبرالية
وإذا
ما استحضرنا عمق الاستياء الشعبي من النخب المسيطرة على الدولة وعلى المجتمع
المدني، فإننا نفهم لماذا كانت تلك "الحجج" كافية لتمرير الفصل 80 بصورة مختلفة جذريا عن منطوقه الصريح، ولماذا
كما كانت كافية أيضا لتحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية"
تؤسس لجمهورية جديدة؛ أساسها إلغاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وإنهاء الدور
المركزي لأجسامها الوسيطة في إدارة الشأن العام وصياغة سياساته الكبرى في مختلف
الحقول بصورة تشاركية.
إنّ
نجاح الرئيس (ومن ورائه النواةُ الصلبة للحكم وحلفاؤها في محور الثورات
المضادة) في إنهاء "الاستثناء التونسي" لا يعود إلى قوة ذاتية فيه، أي
لا يعود إلى شرعية شعبية ولا إلى مشروعية الإنجاز ولا إلى تبني عموم الشعب لمشروعه
السياسي؛ بقدر ما يعود إلى "قابلية الارتكاس" في "مسار الانتقال
الديمقراطي" وهشاشة الوعي الديمقراطي للنخب التي أدارته، بل تناقض وعي تلك
النخب مع مقتضيات الديمقراطية الليبرالية من حيث هي قبول بالاختلاف الجذري واعتراف
بالانقسام الاجتماعي وبمرجعية الإرادة الشعبية وعلوية الدستور.
ونحن
هنا لا نتحدث -كما يفعل أغلب المتباكين على "الديمقراطية"- عن الحقل
السياسي تخصيصا، بل نتحدث عن "الوعي اللا ديمقراطي" المهيمن على النخب
في مختلف الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنقابية والمدنية. فنحن نذهب
إلى أن السبب الجوهري وراء هشاشة "الديمقراطية التمثيلية" (أو
الليبرالية) وتداعيها أمام "إجراءات الرئيس" يكمن في تناقض الدعوى مع
الواقع أو المحصول.
ترجع
المحدودية التفسيرية لمختلف الخطابات الواصفة للوضع التونسي بعد 25 تموز/ يوليو 2021 إلى تركيزها على الحقل السياسي وإهمال باقي الحقول الأخرى. فالوعي السياسي هو مجرد
تعبيرة من تعبيرات الوعي النخبوي الذي يخترق كافة المجالات، إننا أمام حقيقة
جوهرية ذهل عنها أغلب المُتصدّين للشأن العام؛ سواء أكانوا من المسيّسن (أي الذين
يصوغون خطابات عمومية هدفها الأساسي هو التغيير) أم كانوا من الباحثين (أي الذين
يصوغون خطابا عمومية هدفها الأساسي هو بناء خطاب مطابق لموضوعه).
إن
الخطابات السياسية -مهما كانت خلفياتها الأيديولوجية- ما هي إلا خطابات مشتقة من
خطاب كبير هو "الخطاب الديمقراطي" بالمعنى الليبرالي للكلمة. وهو خطاب تحتكره
ما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" التي انبنت هويتها تاريخيا على أساس
التناقض مع "الإسلاميين" ومع الهوية/ المقدس الجماعي (باعتباره تناقضا
رئيسا)، أكثر مما انبنت على التناقض مع التبعية والتخلف أو مع منظومات الحكم
الريعية-الجهوية-الزبونية المتعاقبة على بلاد "النمط المجتمعي التونسي"
منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا (باعتبار هذا التناقض تناقضا ثانويا).
كان المنطق الانقلابي في الحقل السياسي جزءا من منطق أعمّ يحاول أصحابه إفراغ "الانتقال الديمقراطي" من مضمونه، بحيث يضمنون استمرار هيمنتهم على مختلف الحقول الاجتماعية، أي يضمنون عدم حصول أي تغيير جذري في آليات إنتاج الثروات المادية والرمزية وتوزيعها فرديا وجهويا وأيديولوجيا، وكذلك يضمنون حرمان "النهضة" من ركائز السلطة
بعد
الثورة، كان الخوف الرئيس لما تُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" هو دخول
فاعل سياسي قانوني جديد من خارج "القوى الديمقراطية" ألا وهو حركة
النهضة. ولم يكن هذا الخوف محصورا في الحقل السياسي، بل كان خوفا عاما تمظهر في
استمرارية منطق "مقاومة اختراق الدولة" تحت شعار محاربة التطرف والخوف
من تغوّل النهضة. ولذلك ظلت أغلب النخب المهيمنة على الحقول الاجتماعية (كالعمل
النقابي أو المدني والإعلام وغير ذلك) رافضة للتطبيع مع الإسلاميين -فما بالك
بمساندتهم- بمن فيهم أولئك المتمتعون بالعفو التشريعي باعتبارهم ضحايا نظام
المخلوع.
لقد
كان المنطق الانقلابي في الحقل السياسي جزءا من منطق أعمّ يحاول أصحابه إفراغ
"الانتقال الديمقراطي" من مضمونه، بحيث يضمنون استمرار هيمنتهم على
مختلف الحقول الاجتماعية، أي يضمنون عدم حصول أي تغيير جذري في آليات إنتاج
الثروات المادية والرمزية وتوزيعها فرديا وجهويا وأيديولوجيا، وكذلك يضمنون حرمان
"النهضة" من ركائز السلطة، وما يعنيه ذلك من فقدانهم لامتيازاتهم
المادية ووجاهتهم الاجتماعية الموروثة من عهد المخلوع.
خلال
عشر سنوات، كانت الديمقراطية التمثيلية مجرد مجاز لا شيء تحته إلا حكم اللوبيات
والجماعات الوظيفية المرتبطة بالنواة الصلبة للحكم، ولذلك كان من السهل على تلك
النواة الصلبة إنهاء "الفسحة الديمقراطية" والحكم بلا واسطة، اللهم إلا
تلك الواسطة التي وفّرها الرئيس ومشروعه السياسي القائم على إنهاء الحاجة
للديمقراطية التمثيلية (أي إنهاء الحاجة للنهضة بالقصد الأول وإنهاء الحاجة لباقي
الأجسام الوسيطة بالتبعية).
لقد
أدى الصراع الوجودي الذي أدارته "العائلة الديمقراطية" ضد النهضة إلى
إنهاء الحاجة إليها هي نفسها، كما أدى منطق مقاومة مشروع "أخونة" الدولة
والمجتمع إلى جعل أجهزة الدولة مجرد أداة في خدمة النظام الحاكم، بالإضافة إلى إجبار
منظمات المجتمع المدني والنقابات والإعلام على التحول إلى أجهزة دعائية في خدمة
الرئيس ومشروعه؛ إذا لم تُرد التحول إلى عدو "وجودي" للنظام مع ما يعنيه
ذلك من تضييقات واستهداف مُمنهج.
ما فعله الرئيس ومشروعه المبشّر بـ"زمن سياسي جديد" (بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للحكم) هو وجه ومن وجوه "مكر التاريخ" بأدعياء الديمقراطية من جهة، وبسدنة "التوافق" من جهة أخرى. فلا إخراج النهضة من الحكم أوصل الديمقراطيين إلى السلطة أو دفع الرئيس إلى محاورتهم والاعتراف بهم كـ"أنداد" أو شركاء، ولا مهادنة منظومة الفساد والاستبداد وعدم تفكيكها جعل "التوافقيين" في مأمن من الاستراتيجية الانقلابية ومن الاستهداف الأمني-القضائي
لقد
كان تهاوي الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة ضربا من الحتمية أو من النتيجة
المنطقية لآفات تلك الديمقراطية ذاتها عندما تدار بوعي لا ديمقراطي، ولذلك لم يجد
"تصحيح المسار" أية مقاومة جدية من أدعياء الديمقراطية قبل غيرهم.
فإجراءات الرئيس كانت تحقيقا لحلم "انقلابي" لم يكن الكثير من
"الديمقراطيين" يجدون أي حرج في إعلانه منذ الأشهر الأولى للثورة، ولكنّ
ما فعله الرئيس (ومعه النواة الصلبة للحكم) كان خارج أفق انتظار أولئك
"الديمقراطيين" الذين توهموا أنهم سيكونون شركاء له في إدارة البلاد بعد
التخلص من حركة النهضة؛ سواء بمنطق الاستئصال الصلب أو بمنطق الاستئصال الناعم.
في
التحليل الأخير، فإن ما فعله الرئيس ومشروعه المبشّر بـ"زمن سياسي جديد"
(بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للحكم) هو وجه ومن وجوه "مكر
التاريخ" بأدعياء الديمقراطية من جهة، وبسدنة "التوافق" من جهة
أخرى. فلا إخراج النهضة من الحكم أوصل الديمقراطيين إلى السلطة أو دفع الرئيس إلى
محاورتهم والاعتراف بهم كـ"أنداد" أو شركاء، ولا مهادنة منظومة الفساد
والاستبداد وعدم تفكيكها جعل "التوافقيين" في مأمن من الاستراتيجية
الانقلابية ومن الاستهداف الأمني-القضائي. وهو ما يطرح موضوع المراجعات أو النقد
الذاتي باعتباره الغائب الأبرز في الفكر السياسي للنخب التونسية، سواء أكانت في
المعارضة الراديكالية أو "المساندة النقدية".
ولا
شك عندنا في أن المستفيد الأكبر من هذا الغياب هو النواة الصلبة للحكم (منظومة
الاستعمار الداخلي)، وليس الرئيس الذي لا يُمثّل في نظرنا إلا لحظة من لحظات هيمنة
تلك النواة على الحكم قبل الثورة وبعدها.
twitter.com/adel_arabi21