دخلت حرب الإخوة الأعداء في
السودان
(قوات الدعم السريع، والقوات المسلحة) شهرها التاسع، وتمددت خلال الأيام القليلة
الماضية في ولايات ظلت بعيدة عن مرمى النيران، والطرف الذي يبادر بالتمدد والهجوم
هو الدعم السريع، ونقَل الحرب التي بدأت في الخرطوم إلى إقليم دارفور، ثم إلى
ولايات كردفان، والنيل الأبيض والجزيرة (التسمية تعود لكون الأخيرة تقع بين نيلين،
تماما كما ان جزيرة العرب ليست جزيرة، وسميت كذلك لكونها تقع بين البحر الأحمر
والخليج العربي)، وحتى مدربو كرة القدم الهواة يعلمون أن خير وسيلة للدفاع هي
الهجوم، ولكن ظل الجيش السودان ومنذ اشتعال هذه الحرب في نيسان/ أبريل المنصرم،
قابعا في ثكناته، أو ما تبقى منها ليصد هجمات الدعم السريع عليها.
وظلت قوات الدعم السريع تتقدم هنا
وهناك طوال الأشهر الماضية، بينما واصل الجيش الوطني تقهقره هنا وهناك، ثم جاءته
اللطمة الكبرى يوم الإثنين الموافق 18 كانون أول/ ديسمبر الجاري، حينما انسحب آلاف
الضباط والجنود من مدينة ود مدني عاصمة إقليم الجزيرة، فوقعت لقمة سائغة في يد
الدعم السريع، وفور حدوث ذلك، انسحبت كل القوات النظامية من الحصاحيصا وهي ثانية
كبرى مدن الإقليم، فدخلها الدعم السريع دون قتال، وقبلها بيوم واحد كان الجيش
"يلتحم" مع الشعب في ساحة السوق المركزي في ود مدني محتفلا بما أسماه
النصر المتمثل في دحر وسحق الدعم السريع، في أطراف المدينة.
قبل نحو أسبوع من اجتياح الدعم السريع
لود مدني، وقف عبد الفتاح البرهان قائد عام الجيش، ورئيس مجلس السيادة (رئاسة
الدولة) خطيبا امام جند المدينة، مبشرا المواطنين بأن القيادة العسكرية في المدينة
قامت بتجهيز 40 ألف متطوع، ليحاربوا جنبا الى جنب مع القوات المسلحة لسحق
"تمرد الدعم السريع"، ومن ثم تذرع الدعم السريع بتفادي خطر الانسحاق،
وقام بغزو المدينة، وكان ما كان من أمر انسحاب كافة القوات النظامية من المدينة،
فخرجت قيادة الجيش على الناس ببيان عجيب، يقول إنها ستتقصى أسباب الانسحاب، على ما
في هذا من اعتراف ضمني بأن التواصل بين وحدات الجيش، إما مفقود تماما، بحيث يتخذ
قائد حامية إقليمية قرارات مصيرية دون الرجوع الى القيادة المركزية، أو أن هذه
القيادة لا يطاع لها أمر، أو أنها وافقت على الانسحاب وتدعي عدم العلم به كي تنفي
عن نفسها تهمة الهروب من مواجهة العدو.
تتهدد السودان حاليا عدة مخاطر، منها أن الحرب استنزفت موارده الشحيحة ودكّت معظم المرافق الخدمية والبنى التحتية، ومنها أن الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك صار في ضوء اعتبارات قبلية وجهوية، مما ينذر بتقسيم بلد فصلت حكومة عمر البشير المبادة ثلث مساحته
من تطوعوا لمساندة الجيش في الحرب على
الدعم السريع يتخذون اسم "المُسْتَنفَرون"، وقوام هذه القوة عناصر من
حزب المؤتمر الوطني الذي حكم السودان ما بين عام 1989 و2019، وقائدها شاب اسمه
المصباح، فاجأ الناس بتسجيل صوتي، قال فيه إن الجيش عجز عن تسليح آلاف المستنفرين،
وإنه كان داخل مقر القوات المسلحة في ود مدني مسلحا ببندقية فيها طلقة واحدة فقط،
عندما انتبه هو ومن معه إلى فرار بعض الجند، فما كان منه إلا أن تسلل خارج المقر،
وسار في شوارع المدينة لساعات طويلة دون أن ينكشف أمره، حتى وصل إلى بلدة في أطراف
المدينة، واستقل منها سيارة وابتعد عن المنطقة الساخنة.
وقف البرهان يوم الخميس الموافق الواحد
والعشرين من الشهر الجاري أمام حشد من القوات في شرق السودان، متوعدا من أسماهم
بالمتخاذلين والمتهاونين، ومبشرا بأن الجيش سينتصر على الدعم السريع
"بالعزيمة والإصرار"، ثم خانه ذكاءه كما يحدث كثيرا، واتهم القوى السياسية
بالتواطؤ مع الدعم السريع لتصل الى الحكم "عبر أشلاء الشعب السوداني"،
وفي هذا إقرار بأن الحرب في جوهرها حول السلطة والثروة، فقد سبق للبرهان أن دبر
مجزرة في 3 حزيران/ يونيو 2019 عندما كان رئيسا لمجلس عسكري جلس على كرسي الرئيس
المخلوع عمر البشير، بحق القوى المدنية التي أسقطت حكم البشير، ثم كان المتوافق
عليه بين العسكر والقوى السياسية أن يرحل البرهان عن منصب رئيس مجلس السيادة
بنهاية عام 2021، فما كان منه ونائبه في رئاسة المجلس محمد حمدان دقلو (حميدتي)
إلا أن نفذا انقلابا في 25 تشرين أول/ أكتوبر من تلك السنة، وزجا برئيس الوزراء
المدني والوزراء وعدد من القادة السياسيين في السجون، وظل عاجزا عن تشكيل حكومة
بعد تنامي الرفض الشعبي للانقلاب، فكان أن توافق مكرها مع القوى المدنية، على نقل
السلطة إليها في نيسان/ أبريل المنصرم، وكان حميدتي وقتها قد دخل في خصومة فاجرة
معه، وأعلن انحيازه لخيار الحكم المدني التام، فلم يجد البرهان سبيلا لنقض التوافق
سوى الحرب، متذرعا بأن الغاية منها انهاء وجود قوات الدعم السريع كجيش موازٍ للجيش
الوطني.
تتهدد السودان حاليا عدة مخاطر، منها أن الحرب استنزفت موارده الشحيحة ودكّت معظم المرافق الخدمية والبنى التحتية،
ومنها أن الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك صار في ضوء اعتبارات قبلية وجهوية، مما
ينذر بتقسيم بلد فصلت حكومة عمر البشير المبادة ثلث مساحته، لتقوم دولة جنوب
السودان، ومنها ـ وهو السيناريو الأكثر رجحانا ـ أن تأخذ قوات الدعم السريع العزة
بانتصاراتها الميدانية، لتفرض نفسها لاعبا رئيسا في معادلة حكم السودان في فترة ما
بعد الحرب، ليصبح آل دقلو (آل حميدتي) هم العائلة الحاكمة، وقد ظل طموح حميدتي في
حكم السودان مفضوحا ومكشوفا، منذ أن أجلسه البرهان إلى جواره في قصر الحكم قبل أربع
سنوات.