تقترب الحرب
الإسرائيلية على
غزة من إنهاء ثلاثة أشهر، حصدت الآلة
الإسرائيلية خلالها أكثر من 21 ألف شهيد، جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن، كما
خلفت آلاف المصابين والجرحى، ودمرت البنية التحتية، بما فيها المستشفيات،
والمؤسسات العمومية، وكل المرافق الحيوية، بما فيها مقرات البعثات الدولية
الإنسانية. وما زال الإصرار قائما على الاستمرار في التدمير والإبادة الجماعية،
أمام أنظار العالم ومشهد قادته وصنّاع رأيه وبناة سياساته، وحدها المجتمعات المدنية
هنا وهناك تظاهرت، ورفعت أصواتها للتنديد بما تقوم به الآلة العسكرية الإسرائيلية،
ومن يدعمها بشكل مباشر أو غير مباشر.
لم ترتبط الإبادة الإسرائيلية للشعب
الفلسطيني بالعام الذي ودعناه، بل شكلت
الإبادة سلوكا ثابتا في الممارسة الإسرائيلية منذ الإعلان الظالم عن تأسيسها عام
1948، إذ في هذا العام تحديدا حصلت النكبة الفلسطينية الأولى، والحال أنها كانت نكبة
للعرب وجيوشهم المتآكلة، وتجددت سنة 1967، حين احتلت إسرائيل أجزاء استراتيجية من
أراضي الدول المجاورة لها (مصر، الأردن، وسوريا، علاوة على فلسطين)، دون نسيان عمليات
التهجير الجماعي للفلسطينيين على فترات متتالية.
لم تكن الإبادة سوى التعبير الفعلي عن جوهر إسرائيل ومناط تأسيسها، فوجودها بُني على الاستيطان في أبشع صوره، واستمراره وديمومته مرتبطان بالسعي المستمر إلى إبادة شعب يُراد محوُه، ليحل محله آخر تم استقدامه من الشتات. ومع ذلك، تُمثل الحرب الدائرة منذ شهور في غزة لحظة مختلفة، إن لم تكن فارقة، مقارنة مع سابقاتها من النكبات، لا سيما من زاوية حجم الخسائر البشرية والمادية، وصمت العالم أمام ما تقوم به إسرائيل
لذلك، لم تكن الإبادة سوى التعبير الفعلي عن جوهر إسرائيل ومناط تأسيسها، فوجودها
بُني على الاستيطان في أبشع صوره، واستمراره وديمومته مرتبطان بالسعي المستمر إلى
إبادة شعب يُراد محوُه، ليحل محله آخر تم استقدامه من الشتات. ومع ذلك، تُمثل
الحرب الدائرة منذ شهور في غزة لحظة مختلفة، إن لم تكن فارقة، مقارنة مع سابقاتها
من النكبات، لا سيما من زاوية حجم الخسائر البشرية والمادية، وصمت العالم أمام ما تقوم
به إسرائيل.
كيف يمكن قراءة فصول الإبادة الجماعية للفلسطينيين من قبل الآلة العسكرية
الإسرائيلية؟ وهل ثمة ما يُساعد على استنتاج تقدير موضوعي يُوازن بين الخسائر والآفاق
التي فتحتها فصول هذه الحرب، بالنسبة للجانبين معا: إسرائيل وفلسطين؟
تُجمع وسائل الإعلام بكافة أنواعها، المرئية والمقروءة والمسموعة، على أن
ميزان القوى بين الآلة لإسرائيلية والمقاومة الفلسطينية، مختل طبعا لصالح صُناع
الإبادة في غزة، لأسباب موضوعية؛ منها امتلاكهم كل الوسائل العسكرية المتطورة والفتاكة في الآن
معا، واستفادتهم من الدعم اللوجيستي الأمريكي، والتغطية الدولية داخل مجلس الأمن،
على خلاف الفلسطينيين الذين راهنوا ويراهنون على إمكانياتهم الذاتية، وما راكموا
من خبرات في مثل هذه الحروب.
ثم إن المحيط العربي، الموسوم بالضعف والوهن وغياب التماسك الجماعي، لم
يُساعد، ولن يُساعد على التأثير الإيجابي في مجريات حرب الإبادة، باستثناء بعض
أدوار الوساطة التي تقوم بها كل من مصر وقطر تحديدا. لكن، في المقابل، تُساعد حرب
الإبادة -على ضراوة مُجرياتها- على استنتاج خلاصات أولية مفادها أن المقصد الرئيس للآلة
الإسرائيلية لم يتحقق، أي تهجير كلي للفلسطينيين من غزة، وإبادة أعداد أكثر مما حصل
حتى الآن، لأن التفكير الإسرائيلي المتحكم في عملية الحرب على غزة، ظل على الدوام يروم
إخلاء قطاع غزة من أهله، وترحيلهم إلى وجهة أخرى، وهو في واقع الأمر حلم قديم، لم
يتردد قادة إسرائيل في الجهر به في أكثر من مناسبة.
تُعزز وجاهة هذا الاستنتاج الوقائع الحاصلة في الأرض، حيث ثمة مقاومة
فلسطينية مستدامة منعت الآلة الإسرائيلية من تحقيق جوهر أهدافها حتى الآن، بشهادة
القادة العسكريين والمدنيين الإسرائيليين. علاوة على ذلك، لا يسمح الإعلام الإسرائيلي
بنشر ما يكفي من المعطيات والأرقام الحقيقية عن حجم الخسائر في الجيش الإسرائيلي،
وعن عدد المستوطنات التي هجرها المستوطنون مرغمين، وعن الروح المنكسرة في صفوف المجتمع
الإسرائيلي. كما أن الآلة العسكرية الإسرائيلية عجزت حتى الآن عن الوصول إلى رؤوس
المقاومة الفلسطينية، على الرغم من كل الوسائل اللوجيستية والاستخباراتية التي
وظفتها على امتداد فصول حرب الإبادة في غزة. ففي الإجمال، ما زالت أبعاد الحرب على
غزة بعيدة عن تحقيق كامل أهدافها، وتؤكد الوقائع على الأرض أن ثمة ما يشبه
الاستحالة أمام إسرائيل في الوصول إلى اجتثاث الشعب الفلسطيني من أرضه التاريخية.
ما هو حاصل مع حرب الإبادة في غزة لا صلة له بما عرفته الحرب الروسية الأوكرانية. تكشف حرب الإبادة في غزة مرة أخرى عن نفاق خطاب الغرب، وسياساته غير المتوازنة، كما يوضح بما لا يترك مجالا للشك، أن الغرب الذي خلق إسرائيل في سياق تاريخي معروف، ما زال يدعمها، ويُسندها كي تدوم وتبقى وتستمر عنوانا للاحتلال والاستيطان
كشفت حرب الإبادة على غزة، من جانب آخر، أن العالم الذي يتمُ التغني بمبادئ
وقواعد قانونه الدولي، من قبيل القانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان بمختلف
أجيالها، والعدالة والإنصاف، وحق الشعوب في العيش والحياة، وترسانة الاتفاقيات
الخاصة بحماية الفئات الضعيفة من أطفال ونساء ومسنين ومرضى؛ ليس في النهاية سوى
مجرد صكوك ورقية أمام ما يجري من حرب إبادة جماعية في غزة. بل الأكثر، أن هناك
كيلا بمكيالين في التعامل مع الأحداث والأزمات التي تمس جوهر هذه القواعد والمبادئ،
ففي الحرب الروسية الأوكرانية، باعتبارها من أحدث الحروب الدولية، لا يجد المتابع
لفصول هذه الأزمة أي عناء في معرفة كيف تعامل العالم، والغرب تحديدا، مع هذه
الحرب، وكيف وظف بشكل كثيف المنظمة الأممية وحشد التأييد لخوض حرب عالمية حقيقية
ضد روسيا الاتحادية، ومن يدعم رؤيتها حيال هذه الأزمة.
والحال، أن ما هو حاصل مع حرب الإبادة في غزة لا صلة له بما عرفته الحرب
الروسية الأوكرانية. تكشف حرب الإبادة في غزة مرة أخرى عن نفاق خطاب الغرب،
وسياساته غير المتوازنة، كما يوضح بما لا يترك مجالا للشك، أن الغرب الذي خلق
إسرائيل في سياق تاريخي معروف، ما زال يدعمها، ويُسندها كي تدوم وتبقى وتستمر عنوانا
للاحتلال والاستيطان.