الكتاب: "الفكر العربي بعد العصر الليبرالي
نحو تاريخ فكري للنهضة"
الكاتب: دجنس هانس ، ماكس وايس
ترجمة: فؤاد
عبد المطلب
الناشر:مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع ،
المغرب ولبنان، الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات: 726 من القطع الكبير
في نطاق التحقيب لسيرورة الفكر الدستوري في
عصر النهضة، نجد أن المصلح خير الدين التونسي الذي كان يعتبر من أعظم المنظرين
العرب لجهة مطالبته بضرورة اقتداء أقطار العرب الحديثة بفلسفة ونهج الحداثة
الأوروبية الغربية، ومعرفة أساس قوة أوروبا وازدهارها، وبكيفية خاصة دور الدولة
الحديثة ومؤسساتها السياسية القائمة على الحرية في المجتمع المدني، قد سار على خطى
رفاعة الطهطاوي.فالجو الروحي الذي تحرك فيه كلا الرجلين متجانسين إلى حد بعيد،
واللقاء بالمدنية الغربية لدى كل منها موصول أوثق الصلة بمعطيات المدينة الإسلامية
بالذات والخشية على هذه المدينة من خطر تلك .
شارك المصلح خير الدين في اللجنة المكلفة
بوضع الدستور التونسي، الذي سيعلن عنه رسمياً من قبل محمد الصادق باي في 29 كانون
الثاني لعام 1861، حيث كان خير الدين رئيساً لمجلس الشورى، نظراً للثقة القوية
التي كان يتمتع بها عند الباي. وكان الميثاق الأساسي، أو دستور عهد الأمان يعتبر
أول دستور عربي يقر في بلاد الإسلام، وهو متكون من ثلاثة عشر فصلاً، ومئة وأربعة
عشر مادة مرقمة حسب الطريقة الفرنسية. هذا
الدستور الذي هو بمنزلة القانون العضوي للدولة التونسية قد حدد السيادة للمملكة
التونسية في إطار علاقتها مع السلطنة العثمانية، وأقام تقسيماً للسلطة بين الباي
باعتباره ملكاً وراثياً يصعد إلى قمة العرش حسب التقاليد المتعارف عليها في
العائلة الحسينية المتوارثة للحكم، (مادة ـ 1) وبين وزرائه، ومجلس الشورى المتكون
من 60 نائباً، والذي بالإضافة إلى مهامه التشريعية والمالية، فإنه يملك إمكانية
تجريد الباي من صلاحياته إذا أصبحت ممارساته مخالفة للدستور (حسب مواد 9-63.20) .
إن دستور عهد الأمان للعام 1861، قد قوض
سلطة الباي، وأصبحت تونس عبارة عن دولة ملكية دستورية، إذ أن مجلس الشورى الأعلى
هو الذي يصدق على إجراءات الحكومة قبل تنفيذها، فضلاً عن أن السلطة الفعلية قد
أصبحت في أيدي رئيس الحكومة، أو الوزير الأول حسب المصطلح الفرنسي. ويضمن الدستور
الأمن الكامل للأشخاص، والممتلكات، وشرف كل سكان المملكة، بصرف النظر عن ديانتهم،
وجنسيتهم، وعرقهم.
يقول الباحث توماس فيليب: "لما أعدتُ
قراءة كتاب حوراني (الفكر العربي) خلال الاضطرابات السياسية الأخيرة في الشرق
الأوسط، فوجئتُ بملاحظاته القصيرة حول تطور الفكر السياسي في تونس العثمانية
سابقاً، حيث صرح عام (1860) بـ(أن أول دستور سيصدر في أية دولة إسلامية بالأزمنة
الحديثة لن يتضح فرك مَنْ سيكون خلفه)، ودفعني الانبعاث المعاصر للنقاش الدستوري
في الشرق الأوسط إلى إلقاء نظرة أكثر تنظيماً على تطور الفكر السياسي خلال القرن
التاسع عشر واستقصاء الأشكال القانونية والمؤسساتية التي أُعدّت للمناقشة في
الإمبراطورية العثمانية السابقة.
وتميل أجهزة الإعلام اليوم إلى تضخيم الأمور
بعناوين رئيسة مثل (أول برلمان منتخب بحرية)، أو في حالة مصر (أول رئيسٍ منتخب
بحرية خلال 5000 سنة)، والمفقود عادة في هذه المبالغات هو أن حكم القانون
والدستورية كانا موضع حوار، وتطورا وجرى تطبيقهما بصورة مؤقتة في الشرق الأوسط
طوال أكثر من (200) سنة، وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، على سبيل المثال،
أسست مصر برلماناً فعالاً كلياً منتخباً بحرية من أحزابٍ منظمة بشكل جيد، ونجم ضعف
النظم السياسية في الشرق الأوسط من حقيقة أن الحكم الفعلي يندر أن يكون للشعب، كما
كانت الدساتير تعلن، أو للإسلام أيضاً، بل للقوى الاستعمارية.
فعشية الحرب العالمية الأولى، هزت ثورتان
مهمتان النظم السياسية في الشرق الأوسط: (الثورة الدستورية) في إيران عام (1906)،
والثورة في الإمبراطورية العثمانية عام (1908) المشار إليها عموماً باسم (ثورةُ
الأتراك الشباب)، وألهم التمثيلُ الدستوري المخيلة السياسية في الشرق الأوسط
وخارجَهُ، وبعد الحرب العالمية الأولى، ظهرت إيديولوجيات جديدة حاول فيها أنصارها
تشكيل النظام السياسي الحالي، وجرى صراعٌ بين القومية ومناهضة الاستعمار
والاشتراكية والإسلام السياسي وفروعها المختلفة من أجل الهيمنة ضد ما بات يُعرَفُ
باسم الحكم المؤرث الجديد و/أو الحكم المستند إلى انقسام في عصر تصفية الاستعمار،
والدساتير إن صدرت أخيراً في أغلب دول الشرق الأوسط، كونها مصدراً واحداً لشرعية
سلطة الدولة، فقد رُفضت غالباً لأنها نسخٌ عقيمةٌ من دساتير عربية أو تقويض آلي
للنزعة الاستبدادية، وأثارت ثورة إيران الإسلامية فحسب اهتماماً أكاديمياً ثابتاً
في نزعة الشرق الأوسط الدستورية"(ص271).
ويقدم الباحث في هذا الفصل التاريخي الواسع لتطور الدستورية في الإمبراطورية
العثمانية تحليلاً تمهيدياً لمفهوم دولة القانون المترجم إلى الإنجليزية بتعبير
(دولة حكم القانون)، لكنه يحمل معنىً مختلفاً جداً عن التعبير الألماني في القرن
التاسع عشر، واضطلع المعنيان كلاهما،
بدورٍ في تطوير حكم القانون والدستورية في الإمبراطورية العثمانية.
وبشكل أعمّ، أشار (حكم القانون) إلى قانون
صنعه البشر، وطالب بأن على الجميع، بمن فيهم الحكام، إطاعة هذا القانون، وفي
العالم الأنجلوسكسوني استُعمل التعبير منذ القرن السادس عشر بخصوص (القانون
العام)، مُطلقاً بشكل تدريجي مجموعة قانونية مستمدة من قضايا أمام المحاكم العليا،
التي وجب بعدئذ أن تتبعها فيها المحاكم الأدنى في حالات مماثلة، وفي الولايات
المتحدة، في المقابل، أشار حكم القانون إلى دستور وحكومة تمثيلية منذ البداية.
ويمكن إيجاد ديمقراطية ليبرالية تحت شرط حكم
القانون فقط، لكن حكم الدولة، دولة القانون، يمكن أن يزدهر من دون ديمقراطية
ليبرالية، وفي التقليد الألماني، صاغت النخبة الحاكمة القانون وفي الوقت نفسه
عتَّمتُ على مصادر هذه القوانين، وهنا ساعد حكم القانون مؤلفي القانون، وأصبحت
الدولة دولةً استبدادية، وفي القرن التاسع عشر، كانت تشريعات دولة حكم القانون
تدعى كثيراً بالدساتير، وأدى هذا إلى التباس كبيرٍ في المعنى اليوم، لما ترتبط
الدساتير عادةً بمفاهيم الديمقراطية والليبرالية.
ويتركزّ موضوع هذا الفصل من الكتاب الكبير
حول مفهوم حكم القانون الذي تم تطبيقه على كل من (الحاكم العادل) في الفكر السياسي
الإسلامي و(الحكم المطلق المستنير) في أوربا، وفي الحالتين، أعطِيتْ أهميةً كبيرةً
لاستمرارية السلطة الملكية ولازدهار الرعايا ورفاهيتهم، ولكن لم يكن هناك اعتبارٌ
لحقوق الرعايا، فإن تطابق هذا المفهوم السياسي في أغلب أوربا القارية وفي
الإمبراطورية العثمانية خلال القرن التاسع عشر أمر لافت للنظر، ويستكشف هذا الفصل
الانتقالات من حكم القانون إلى الدساتير والديمقراطية الليبرالية في تفاعل فكر
التنوير وبناء دولة المؤسسات من جهة، والصلاحية المستمرة لمفهوم (الحاكم العادل)
في الفكر السياسي الإسلامي المستند إلى إعادة اكتشاف تراث ابن خلدون السابق لكتاب
مكيافلي (الأمير)، وسببتْ هذه الاتجاهات المتناقضة للفكر تردداً حول النزعة
الدستورية في الشرق الأوسط، وزاد إلى مصادر القلق الشك في كون العرب أو جميع
العثمانيين قد شكلوا أمة أساساً.
الفكر الدستوري في تونس
منذ عصر النهضة العربية الأولى، يعتبرالمصلح
خير الدين التونسي من أعظم المنظرين العرب لجهة مطالبته بضرورة اقتداء أقطار العرب
الحديثة بفلسفة ونهج الحداثة الأوروبية الغربية، ومعرفة أساس قوة أوروبا
وازدهارها، وبكيفية خاصة دور الدولة الحديثة ومؤسساتها السياسية القائمة على
الحرّية في المجتمع المدني.
وعندما اعتكف المصلح خير الدين عن العمل
السياسي وضع كتابه الوحيد باللغة العربية بعنوان "أقوم المسالك في معرفة
أحوال الممالك "، نشر لأول مرة في تونس العام 1867، حيث لاقت ترجمة مقدمته بعنوان " الإصلاحات الضرورية
للدول الإسلامية " صدى كبيرا في فرنسا، نظرا لما تنطوي عليه من صياغة لمشروع
نهضوي حديث.
ويعلق المفكر العربي البرت حوراني على ذلك
بقوله :" يبدو أن خير الدين وضع هذا الكتاب وهو على شيء من الاعتقاد أنه يفعل
للعصر الحديث ما فعله ابن خلدون لعصر أسبق. فالمؤلفان تونسيان وضعا كتابيهما في
فترة عزلة عن الحياة السياسية، وعالجا فيهما، كل على طريقته قضية نشوء الدول
وسقوطها. وقد قسم كل منهما كتابه إلى مقدمة لعرض المبادئ العامة وإلى أجزاء عدة.
إلا أن التشابه يقف عند هذا الحد. ففيما يعني كتاب ابن خلدون، في معظمه،بتاريخ
الدول الإسلامية، يعني كتاب خير الدين، في معظمه أيضاً، بتاريخ الدول الأوروبية
وتركيبها السياسي وقوتها العسكرية ".
منذ عصر النهضة العربية الأولى، يعتبرالمصلح خير الدين التونسي من أعظم المنظرين العرب لجهة مطالبته بضرورة اقتداء أقطار العرب الحديثة بفلسفة ونهج الحداثة الأوروبية الغربية، ومعرفة أساس قوة أوروبا وازدهارها، وبكيفية خاصة دور الدولة الحديثة ومؤسساتها السياسية القائمة على الحرّية في المجتمع المدني.
وفي المقدمة، تعهد الحاكم بالالتزام
بالقوانين المثبتة في هذه الوثيقة، وأكدت مساواة الرعايا أمام القانون، وطمأنتهم
على أمان حياتهم ومالِهم وملكيتهم، والتطبيق العادل للضرائب، وتجنيد الجيش، وعلى
نحو عابر، يردُ ذكرٌ لمجلسٍ أو اثنين سيتمُّ تأسيسُهما ولكن ما من كلمة وردت حول
كيفية تشكيلهما، وقدم (دستور) عام (1861)، قانون الدولة التونسية، جواباً واضحاً:
يمكن للحاكم اختيار وزرائه بحرية، وكان الوزراء مسؤولين أمام المجلس الكبير، الذي
تألف من سنين عضواً يُدعون أهل الحلّ والعقد، وكان عشرون عضواً منهم معينين من
موظفين حكوميين كبار ومن ضباط الجيش؛ واختار وجهاء الدولة أربعين، والميزانية على
نحو خاص مهمة الحاكم ووزرائه، وألغي هذا (الدستور) بعد ثلاث سنوات إثر تمرد كبير
اندفع في الريف ضد نظام ضريبي أعلى.
وكتب كلٌّ من بوضياف وخير الدين مقدماتٍ
طويلةً لأعمالهما، ناقشا فيها بشكل عام نظماً سياسية مختلفة، حسناتها وسيئاتها، من
دون أن يخفيا أولوياتهتما، وأسميا هذه مقدمات، ولم تكن هذه مصادفة بالتأكيد لكنها
تشير إلى مقدمة ابن خلدون المشهورة كنموذج لهما، ويؤكد اقتباسُهما المتكرر والشامل
من (المقدمة) أهمية ابن خلدون لديهما حين كان فيلسوف التاريخ التونسي العظيم في
القرن الرابع عشر سيعيد لتوّه اكتشاف الفكر العربي العثماني، وأدركا أيضاً أنهما
يبتدعان النظام السياسي لتونس، وأن عليهما لذلك أن يُهدئا مخاوف الحاكم والعلماء والأوربيين،
واعتمدا كلاهما بقوة على مصادر إسلامية تقليدية، وتعلما صياغة التغييرات التي
دافعا عنها فيما يتعلق بالاستعادة المبكرة للمؤسسات الإسلامية أو العثمانية.
وكان خير الدين مهتماً جداً (بالحكم الصالح)
وبمناقشاتِهم للنماذج الأوربية، واستفادوا من نظرية المصدَرين الأساسيين للقانون:
الوحي القدسيّ والمنطق الإنساني، ووفق تقدير كارل براون (المشكلةُ الرئيسةُ لخير
الدين هي كيفية كبح الحاكم الاستبدادي)، وثمة دليل جوهري على هذه الملاحظة في
مقدمة خير الدين، ولا مسوّغ للشك في أنه كان مهتماً بنظام سياسي تمثيلي من أجل
الرعايا، واقتبس على نطاق واسع وجهات نظر ابن خلدون بأن الملكية دائماً ممارسة
للهيمنة والقوة، ولأن الرغبات البشرية يعارض المنطق والعدالة، أيّد أن تحكم
القوانين في المملكة، ولدى الملك المعرفة اللازمة والقدرة على تطبيقها في الحكم
الصالح، ولكن على نحو نموذجي أكثر افتقر إلى إحداهما أو إلى الأخرى أو إلى
كلتيهما، وجعل هذا ضرورياً في أن يساعد الحاكم جهاز استشاري مكون من (أهل الحل
والعقد)؛ أي الأشخاص المهتمين، لتوجيهه إلى القرارات الصائبة، ولم يكن على الحاكم
وحده بل على وزرائه أيضاً الخضوع إلى هذا التوجيه، وعلى هذا أيضاً ضرورة وجود
أدوارٍ وقوانين واضحة، وأنهى مقالته حول الحكومة الصالحة بمناقشةٍ حول مجلس النواب
الفرنسي، فقارنه (بأهل الحل والعقد) في المجتمعات الإسلامية، ولاحظ أنهم وضعوا
القوانينَ وأن وزراء الملك مسؤولون أمام المجلس، وبهذه الطريقة أمكن التحقق من صحة
إجراءاتهم، ولما كان الحاكم ملزماً بمتابعة إرادة المجلس، لم يكن أحد حتى الحاكم
الظالم يستطيع الإساءة كثيراً، فالقانون عليه حماية (حقوق وحرية الرعايا، ويؤدن
الضعفاء ضد عنف الأقوياء ويقي المضطهدين سلطة مضطهديهم).
ووجد خير الدين البرهان على صلاحية هذا
النظام في (التقدم الأوروبي بالعلوم والزراعة والصناعة واستثمار الموارد
المعدنية)، وذكر بصورة عابرة حقيقة أن النواب كانوا منتخبين لكنه أُعجب بنتائج
القوانين الجيدة، ولم يوضح أن هذا النظام السياسي يجب تأسيسه في تونس لكن ميحه لو
لم يحقق في إثارة إعجاب القارئ، ولخشية رفضها من العلماء لأنها استيراد مسيحي، أي
أن (هذه القوانين مستمدة من المنطق البشري المستند إلى رؤية مناسبة للسلطة
الدنيوية).
والفضل الثاني حول (الحكم المطلق)، والفصلُ
الرابع حول (الحكم العقيد والقانون)، في مقدمة أحمد بن بوضياف، حاسمان في عملية
فهْمنا تطور الدستورية في الإمبراطورية العثمانية، وهو يتفق في عدة نقاط مع خير
الدين، الذي تعاون معه كلياً، واستعمل مثله نظرية الشرعية ذات المصدرين، الوحي
والمنطق، حين ناقش أن الدين والمنطق منعا الحكم بوساطة القانون، ومثل خير الدين،
أشار إلى نقاش ابن خلدون أن الحكومة الظالمة سببت غياب الأمان للملكية والازدهار،
فالشعب لن يهتم أكثر وسيهاجر، وتفقد الحكومة مصادرها وتنهار، وحذّر من الأذى
الناجم عن الحكم الاستبدادي، لكنه تقدم أيضاً في معارضته لحكومة سيئة خطوة أكثر من
خير الدين، وناقش أن الأمر بطاعة الحاكم الظالم قاعدةٌ دينيةٌ مستحبة لكنها ليست
إلزامية، ومقابل هذا الأمر أشار إلى الرأي الإسلامي حول (دعم الخير ومنع الشر)،
الذي يجب انتهاجُهُ على الأقل بكلمات منطوقة، ولكن ليس بالضرورة عن طريق العصيان،
وليس، بالتأكيد، عن طريق الثورة.
وحين كتب بوضياف عن مجالس النواب في أوروبا،
لم ينصح، أيضاً، بالمشاركة الشعبية عبر الانتخابات التي ستغدو مؤسساتية في تونس،
لكنه أكد، أكثر من خير الدين، أن غاية الانتخابات (حمايةُ حقوق البشر الإنسانية)،
ووضّح أيضاً أن للنواب السلطة السياسية في استجواب أعمال وقرارات الوزراء والحاكم
ضمنياً، ولأن النواب انتخبهم الشعب فمثّلوه، ولأن القوانين تُناقش وتقرر في مجلس
النواب مع الوزراء، وُجِد الإجماع غالباً، وأكد أن مجلس النواب يشبه نوعاً ما
ديوان السلطان العثماني العظيم سليمان القانوني (توفي عام 1566)، وشعر بأنه استحق
احترام القانون الإسلامي.
كان بوضياف يوسع أحياناً معنى تعبير
(قانون)، حين كتب عن القانون الشرعي والسياسي، أو حين أكد أن قانون الحكم الإسلامي
هو القرآن. وضمّن هذا الشريعة والقانون البشري تحت تعبير القانون، لما أشار
التعبير بشكل محدد إلى قانون صنعه البشر تحت حكم السلطان سليمان، ومع ذلك، في أغلب
الأوقات، كلما أشار إلى نظرية القانون ذي المصدرين، كان بوضيا يتبع الفارق
التقليدي بين الاثنين، وفي ترجمته الرائعة، استعمل براون كثيراً تعبيري (دستور)
و(دستوري)، وعلى أية حال، استعمل النص العربي دائماً الكلمتين: قانون وقانوني،
وحيث استعمل بوضياف تعبير المُلك القانوني، بترجمته براون (الحكومة الدستورية)،
ويبدو هذا مضللاً فقد أشار الملك القانوني إلى قوانين قوية أصدرها الحاكم والنخبة
السياسية، وهي لذلك أقرب بكثير إلى مفهوم (حكم القانون) من مفهوم الدستور الحديث.
الحكم الدستوري في مصر
تحقق الفكر الدستوري أولاً في مصر خلال
النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدأت هذه العملية حين وضع الخديوي إسماعيل
مجلس شورى النواب موضع الاستعمال، أي المجلس الاستشاري للنواب، لاستكمال مجلسه
الاستشاري الشخصي، أي المجلس الخصوصي عام (1866)، وقبل سنةٍ من سَفرته المشهورة
إلى معرض باريس العالمي، أعلن الخديوي أن هذا المجلس الاستشاري قفزة حضارية إلى
الأمام، بيد أن سلطته كانت محدودة جداً، ويعمل بناء على طلب الخديوي فحسب، وعلى
أية حال، لم تكن القضية راسخة ولا دقيقة، فتنازع أصحاب الحصص المختلفون على
العلاقات بالوجهاء الريفيين المصريين والنخبة الحاكمة التركية القوقازية، وعلى
وجود الأوربيين في الحكومة المصرية، ولإعادة كتابة الدستور، والتحالف بين المجلس
والجيش المصري سببت هذه الصراعات ثورة عرابي القصيرة الأجل، التي خلعت الخديوي
إسماعيل عام (1879)، وأحدثت أول انتخاباتٍ برلمانية في التاريخ المصري عام (1881)،
ودستوراً جديداً بعد أشهر قليلة، وعلى نحو نخبوي لا يقل عن التجارب المعاصرة في
أوربا، دفعت العملية السياسية ولفريد س. بلنت ـ أبرز مؤيد بريطاني للتحرر السياسي المصري- إلى نشوة
حماسة، وتُذكر مشاهد شارع القاهرة حيث: وكان البرلمان المصري عملياً المكان
السياسي الوحيد الخالي من وجود أوربي مهيمن، وموضع نشوء ما دعاها عزّ العرب
القومية الاقتصادية المصرية، وباستنادها إلى نقاش بلنت ويير وأوين وعزّ العرب بأن
احتلال بريطانيا لمصر عام (1882) لم يكن بسبب ضعفها، بل من الاهتمام بظهور بنىً سياسية
شرعية وقوية ومستقلة ذاتياً، فقدمت دراسة إرين ويبرت فينر المفصلة حول تطور
البرلمان المصري أخيراً دليلاً تاريخياً جديداً على إسباغ الطابع المؤسساتي
للبرلمان وحصولِهِ على استقلالٍ كبير، وحولت العملية السياسية بين عامي (1866)
و(1882) البرلمان إلى لاعبٍ قوي ومستقرّ على نحوٍ متزايدٍ، فرفع ذلك وعي المصريين
السياسيّ، وتتوج بالدعم الشعبي الواسع الانتشار لمطالب عرابي الدستورية.
الإصلاحات الدستورية في الإمبراطورية
العثمانية
كان ما يسمّى بالعصر العثماني للإصلاحات،
منذ إعادة كتابة مرسوم تجديد التنظيم عام (1839) إلى تقديم أول دستور عثماني عام
(1876)، فترة محاولات مكثفة في إسطنبول لتجديد البنية السياسية وتوازن السلطة في
الإمبراطورية، وأدرك المصلحون الذين أعدوا الأمر العالي لمرسوم تجديد التنظيم
ضرورة التغيير لجعل الحكومة المركزية أكثر فعالية والإمبراطورية أقوى، وكافح مصطفى
رشيد باشا و(رجال التنظيمات) حوله من أجل الإمبراطورية بتحديث وسائل حكمهم الفردي،
(بدلاً من تشتيت سلطة الحكومة بالمؤسسات البرلمانية)، واهتمّ المصلحون بإحداث
بنيةٍ إداريةٍ تستندُ إلى المشروعية والأهلية، وحثُّوا على التنمية والازدهار
الاقتصاديين، ولم تُنشر إعادة كتابة مرسوم تجديد التنظيم ولا إجراءات (رجال
التنظيمات) إلى أية نيةٍ لجعل الناس يشاركون في السلطة السياسية ببرلمانات أو
أحزاب أو دستور ليبرالي، وعنت الفعالية الكبرى بالنسبة إليهم تحسين سلطة المركز
الإمبراطوري.
وجاء الحافز الدستوري من مكان آخر، فمنذ
منتصف ستينيات القرن التاسع عشر بدأت مجموعة صغيرة مقرها إسطنبول من الصحفيين
وكتاب المسرحيات ورجال الدين المعارضين الذين أصبحوا معروفين باسم (العثمانيين
الشباب) بمقاومة حكم (رجال التنظيمات) الاستبدادي في الباب العالي، وطورت هذه
المجموعة أفكاراً لتجديد الإمبراطورية تحت الشعار العربي (حب الوطن من الإيمان)
عبر مجلتهم الفرنسية العثمانية (حُرّيت)، ودمجوا أسفهُم لخسارة القوة العسكرية
العثمانية، الممثلة بإنهاء الإنكشاريين، بدروس من علم اجتماع كانط وأفلاطونية
فينلون السياسية ومقدمة خير الدين التونسي، واستمدت وطنية العثمانيين الشباب
الليبرالية إلهامها أيضاً من إعادة اكتشافهام لابن خلدون وتقاليد حلقة العدالة
والحاكم العادل في الفكر السياسي الإسلامي والعثمانية، أو أدب النصيحة الموجه
للأمراء، وبسبب هذه البيئة الفكرية غادر خيرُ الدين تونس في سبعينيات القرن التاسع
عشر لمتابعة كتاباته، وأخيراً لتولي منصب رئيس وزراء السلطان عبد الحميد الثاني
لفترة قصيرة.
وجاء الحافز الدستوري الآخر، مثل خير الدين
باشا، من الأقاليم وكانت وجهة النظر هنا أن علاقات السلطة بين المركز والمحيط لعبة
تعادل -كلما قوِي المركز ضعف المحيط والعكس بالعكس ـ مشتركة لأطول وقت من مؤرخي
الإمبراطورية العثمانية، وأظهرت مقالة ألبرت حوراني المؤثرة (سياسة الأعيان) كم
كان بعض الوسطاء المحليين متحدين أكثر من فقدان السلطة خلال التنظيمات، وفي فترة
أحدث، ناقشت دراسة أرييل سالزمان حول النظام القديم العثماني قبل وثيقة الاتفاقية
عام (1808) الانعكاس في القرن الثامن عشر؛ أي إن اللامركزية العثمانية لم تسبب
بالضرورة حكاً ذاتياً أكبرللوجهء الإقليميين، لأن قوى السوق منحتهم إسهاماتٍ
حيويةً في ازدهار مجال الدولة العثمانية المحميِّ جيدَّا.
اقرأ أيضا: الليبرالية شكلت كتابة التاريخ العربي في عصر النهضة.. قراءة في كتاب
اقرأ أيضا: التصورات العربية حول النهضة.. الحرِّيةُ مقابلَ الليبرالية.. قراءة في كتاب