قبل ستين عاما، سقط الرئيس جون كينيدى قتيلا أثناء مرور موكبه بوسط مدينة دالاس فى
تكساس، وأصبح مكان الاغتيال أحد أهم مزارات المدينة، وحول المكان تنتشر الكتابات والعبارات المتعلقة بالحادث، إلا أن أهمها ما يقول «هنا فقد رئيس حياته، ومن هنا فقدت الأمة الأمريكية عقلها». وتمت جريمة اغتيال كينيدى عن طريق بندقية آلية، فى ولاية يعشق سكانها أسلحتهم النارية، والتى يمتلكون الملايين منها، لارتباطها فى ذهنهم بماضٍ عريق فيما يتعلق بالصيد ورعاية وحماية الماشية، وحماية لأنفسهم من توغل الحكومة الفيدرالية فى حياتهم.
وكل شىء كبير وضخم فى تكساس بداية من منازلها وسياراتها ووجباتها وشرائح اللحم بها وطرقها السريعة، والأهم طموحاتها، وحتى كوارثها الطبيعية، وأزماتها السياسية. وبرزت أخبار ولاية تكساس فى صدر نشرات الأخبار وافتتاحيات الصحف حول العالم خلال الأيام القليلة الماضية على خلفية النزاع بين الحكومة الفيدرالية بواشنطن ممثلة فى إدارة الرئيس جو بايدن، وبين حكومة ولاية تكساس وعلى رأسها حاكم الولاية كريج آبوت الجمهورى، حول سياسات الهجرة وتأمين الحدود الجنوبية للولاية مع المكسيك.
وتشهد الولايات المتحدة
أزمة غير مسبوقة تتعلق بالمهاجرين غير النظاميين، الذين لا يتوقف وصولهم وعبورهم الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك بمعدلات قياسية، حيث بلغ إجمالى من دخل الأراضى الأمريكية خلال الشهر الماضى فقط 300 ألف شخص، أى بمعدل يقترب من 10 آلاف مهاجر يوميا، أو ما يتخطى 3.5 مليون مهاجر سنويا.
ومع فشل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، الجمهورى منها والديمقراطى، فى التعامل مع ملف الهجرة، لجأت الولايات الحدودية الأربع، كاليفورنيا، أريزونا، نيو مكسيكو، وتكساس، إلى إجراءات منفصلة لمواجهة هذه الأزمة.
إلا أن ولاية تكساس، وبمبادرة من حاكمها الجمهورى، لجأت لنص دستورى قديم يحمل فى طياته تعقيدات قد تدفع لمواجهات بين الحرس الوطنى للولايات (جيش الولاية ذو التسليح الخفيف) وعناصر أجهزة الهجرة وإدارة الحدود التابعة للسلطات الفدرالية.
ويتيح تعرض الولاية لحالة ما سمى بـ«الغزو» بعض الإجراءات الاستثنائية «للدفاع عن النفس»، وهى الاستراتيجية التى لجأت إليها ولاية تكساس، ما قد يدفع لمواجهة قد تخرج عن نطاقها السياسى والقانونى، الأمر الذى يثير قلق الأمريكيين، ويثير شماتة حول العالم من شعوب ونخب تحلم بانهيار الدولة الأمريكية، وتفتتها لولايات على شاكلة ما حدث للاتحاد السوفيتى الذى انفرط عقده فى بداية تسعينيات القرن الماضى ليشكل 15 جمهورية مستقلة.
وتتهم تكساس الحكومة الفيدرالية برفض أداء واجباتها بتأمين الحدود الجنوبية للبلاد، بما فيها حدود ولاية تكساس الممتدة على طول 2018 كيلومترا مع المكسيك، وهو ما سمح بدخول أكثر من 7 ملايين مهاجر غير نظامى للأراضى الأمريكية منذ وصول بايدن للحكم.
وقامت قوات الحرس الوطنى لتكساس ببناء حواجز حدودية، ووضع أسلاك شائكة ضخمة على الحدود، لمنع تدفق المهاجرين غير النظاميين، التى تقول إنهم «يرهقون المدارس والمستشفيات والبنية الأساسية فى الولاية، فى وقت لا تستطيع الولاية توفير خدمات صحية واجتماعية وغذائية لهم».
كذلك منع آبوت قوات ومسئولى أجهزة الهجرة الفيدراليين من دخول مناطق مجاورة لأحد أكبر المعابر الحدودية فى الولاية «إيجل باس»، بدعوى أنهم يسهلون دخول المهاجرين غير النظاميين للولاية.
يمنح الدستور الحكومة الفيدرالية سلطة تنظيم التجنس، وسلطة تنظيم الهجرة وأمن الحدود، إلا أن الكونجرس هو الجهة التى تقر القوانين التى تمنح الحكومة الفيدرالية الدور المهيمن على شئون الهجرة من خلال تنفيذها للقوانين. ومنذ عقود يعجز الكونجرس عن سن وإقرار أى قوانين تتعلق بملف الهجرة، نتيجة الاستقطاب الكبير بين الحزبين، ورغبة كل حزب فى استغلال القضية لتحقيق مصالح سياسية انتخابية ضيقة.
لكن المادة الأولى من الدستور التى يعتمد عليها آبوت فى قراره تحد من سلطات الولايات، حيث يحظر على الولايات «الانخراط فى الحرب» دون موافقة الكونجرس «ما لم يتم غزوها بالفعل«، حيث تم تبنى هذا البند فى وقت كانت تمتلك الدولة الأمريكية جيشا فيدراليا صغيرا، وكان تنظيم اجتماع للكونجرس يستغرق أسابيع، فتم السماح للولايات بالدفاع عن نفسها من الغزاة الأجانب حتى وصول القوات الفيدرالية. ولجأت إدارة جو بايدن إلى المحكمة العليا التى دعمت بدورها موقف بايدن، وأصدرت مؤخرا أمرا ألغى بموجبه أمرا قضائيا لمحكمة الاستئناف الأدنى بمنع الضباط الفيدراليين من قطع حواجز الأسلاك الشائكة وإزالة الحواجز، فأقرت حق الحكومة الفيدرالية بنزعها. إلا أن المحكمة لم تشر إلى ضرورة أن توقف ولاية تكساس بناء الأسوار ووضع الحواجز، فاستمرت بالقيام به. وأيد حكام 25 ولاية من الجمهوريين الإجراءات التى اتخذتها ولاية تكساس لتأمين حدودها، وتعهد حكام 10 ولايات بإرسال قوات من الحرس الوطنى من ولاياتهم لدعم ولاية تكساس، واعتبروا أن هذه معركة من أجل مستقبل أمريكا كلها.
يرى الكثير من أهل تكساس أن ولايتهم يجب أن تكون جمهورية مستقلة، ولما لا، وقد كانت كذلك فى الفترة ما بين عامى 1836 و1845، حين استقلت عن الحكم المكسيكى، واستمرت كجمهورية مستقلة لمدة تسع سنوات، قبل انضمامها إلى الاتحاد الأمريكى. وتركت تلك الخبرة آثارا كبيرة على سكان تكساس وعلى شعورهم القومى وإحساسهم بالتميز على غيرهم من الولايات الأخرى الصغيرة.
ويبلغ عدد سكان تكساس اليوم ما يقرب من 32 مليون شخص، مما يجعلها ثانى كبرى الولايات بعد كاليفورنيا. وتمتلك ولاية تكساس اقتصادا ضخما ومتنوعا بناتج قومى بلغ العام الماضى 2.4 تريليون دولار، ويضعها ذلك فى المرتبة السابعة كأكبر اقتصاد فى العالم، وتسبق فى الترتيب روسيا، وإيطاليا والبرازيل وكندا، ولا يسبقها سوى الولايات المتحدة، والصين، وألمانيا، واليابان، والهند، وبريطانيا، وفرنسا.
استغربت كثيرا من تغطية وسائل الإعلام العربية، المقروءة منها والمشاهدة، لأحداث تكساس ولجوئها لاستخدام لغة تعبر عن شماتة وفرح، إلا أن ذلك أفقد هذه التغطيات موضوعيتها، وأبعدتها عن فهم جوهر الأزمة فيما يتعلق بتنازع الاختصاصات بين الحكومة المركزية، وحكومات الولايات وذلك لتحقيق مكاسب سياسية انتخابية ضيقة، ليس إلا، وليس سعيا لانفصال ولا مطالبة باستقلال.
(الشروق المصرية)